يخطئ من يقف فى تفسير توصية الله الرجال بالنساء على العطف عليهن والإحسان لهن والتلطف إليهن وكأنهن أسرى امتنان الرجال بالفضل عليهن مع أنه ما من رجل من أبناء آدم إلا وقد نشأ فى أحضان أم عطفت عليه وأحسنت إليه وتلطفت معه حتى استقل بشخصيته، فلما تولى أمر نفسه نكث فجعل يزاحم النساء ويضايقهن فى رسالتهن، ومن هنا كانت توصية الله الرجال بالنساء خيراً كموعظة لهم بعدم عرقلة النساء فى منافستهن الرجال فى مهمة الإعمار الموكولة لهم جميعاً بدون تمييز بالجنس كما قال سبحانه: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود: 61)، وقوله تعالى: «فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض» (آل عمران: 195)، وقوله تعالى: «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل: 97).
وإذا اتفقنا على أن العلم ليس له سقف؛ لعموم قوله تعالى: «وفوق كل ذى علم عليم» (يوسف: 76)، فإنه يمكننا إعادة قراءة النصوص القرآنية والنبوية لنكتشف مدى الظلم الذى وقع على المرأة باسم عطف الرجال عليها وإحسانهم إليها وكأنهم أولياء نعمتها، وليست هى مثلهم تنعم من فضل الله وكرمه مباشرة دون وساطة مخلوق، رجلاً أو امرأة. وحسبنا عموم قوله تعالى: «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» (التوبة: 71)، وعموم قوله تعالى: «ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف» (البقرة: 228)، وعموم قوله تعالى: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد» (فاطر: 15)، وعموم قوله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان» (الأحزاب: 72)، وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التى لا تفرق فى حقوق الإنسانية وصفاتها بين ذكر وأنثى، فكلهم يحظى بشرف العبودية لله من غير واسطة، رزقاً وصلةً، كما قال سبحانه: «وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها» (هود: 6)، وقال سبحانه: «وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» (البقرة: 186).
إن المتأمل فى صيغة توصية الله بالنساء يدرك أنه سبحانه لا يستعطف لهن؛ لأنهن مكفولات بالكرامة كسائر بنى آدم فى قوله تعالى: «ولقد كرمنا بنى آدم» (الإسراء: 70)، ومشمولات بالعزة كسائر المؤمنين فى قوله تعالى: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» (المنافقون: 8). وإنما كانت صيغة التوصية بالنساء تحذيراً من ظلمهن فى حقوقهن العادلة، أو عرقلتهن فى أداء تكاليفهن، ومن ذلك ما أخرجه الطبرانى عن المقدام بن معدى كرب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قام خطيباً فى الناس ذات يوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن الله يوصيكم بالنساء خيراً (ثلاثاً) فإنهن أمهاتكم وبناتكم وخالاتكم، وإن الرجل من أهل الكتاب ليتزوج المرأة وما تعلق يداها الخيط فما يرغب واحد منهما عن صاحبه». هنا نفهم التوصية بأنها تحذر من المساس بحقوق النساء حتى لا يكون معناها المن بالعطف على أمهاتنا وبناتنا وخالاتنا، وهن السابقات بالعطف علينا. وفى حديث الصحيحين عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شىء فى الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء». هنا كذلك تأتى التوصية بمعنى التحذير من الإساءة للمرأة؛ لأن الضلع بكسر الضاد وفتح اللام عند أكثر الشراح مجاز للتعبير عن نموذج لخلق الله هكذا يتوهم الرجل أنه قادر على تغيير مساره وهيهات، فما عليه إلا أن يتعامل معه بحسب طبيعته المخلوقة، فكان الحديث تحذيراً للرجال من الانشغال بتغيير مسار طبيعة النساء وفطرهن. وفى مقابل هذا البيان نجد من يفسر الضلع بضلع آدم ليقنع نفسه بأن المرأة تابعة للرجل مستدلاً بحديث ضعيف أخرجه ابن اسحاق فى «سيرته» عن ابن عباس أن حواء خلقت من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم.
ومما يؤكد وجهة نظرنا فى تفسير توصية الله بالنساء على أنها تحذير من ظلمهن أو الوقوف فى سبيلهن كقاطعى الطريق ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال له: مه. قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال سبحانه: «ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك» قالت: بلى يارب. فقال الله تعالى: «فذاك». ثم قال صلى الله عليه وسلم: اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم» (محمد: 22-23). ويترتب على تفسير توصية الله بالنساء أنها تحذير للرجال من ظلم النساء أو عرقلتهن عن أداء تكاليفهن المؤتمنات عليها من غير وصاية الرجال عليهن أن ينحاز المفسرون والفقهاء عند الشك لصالح المرأة، وأن يتسابقوا فى مبادرات تأمينها المالى، كتلك المبادرة الخالدة التى قدمها سيدنا عثمان بن عفان عندما وجد عبدالرحمن بن عوف وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة قد طلق زوجته تماضر بنت الأصبغ الكلبية، وهى آخر طلاقها فى مرضه الذى مات فيه، واعتبر ذلك فراراً من ميراثها فورثها عنه بعد موته الذى اختلفت الرواية فيه فقيل إنه مات فى عدتها كإحدى روايات الدارقطنى والبيهقى وقضاء عمر كما فى رواية الموطأ. وقيل إنه مات بعد انتهاء عدتها وصيرورتها حلالاً للخطاب كالرواية الثانية للبيهقى ورواية مالك فى الموطأ ورواية عبدالرزاق فى «مصنفه». وقد ترتب على قضاء عثمان بتوريث طليقة عبدالرحمن بن عوف منه قبل انتهاء عدتها أو بعده بحسب اختلاف الروايات أن ذهب الشافعية فى مذهبهم الجديد بعدم الاعتراف بهذا القضاء من عثمان؛ إعمالاً بظاهر النصوص القرآنية التى تقصر حق التوريث بين الزوجين على حال بقاء الزوجية. وذهب جمهور الفقهاء (الحنفية وبعض المالكية والحنابلة) وهو ما نص عليه قانون المواريث المصرى رقم 77 لسنة 1943م إلى العمل بقضاء عثمان فى توريث المطلقة من مطلقها إذا مات فى عدتها، وذهب الحنابلة إلى توريثها مطلقاً ما لم تتزوج وكان طلاقها باتاً فى مرض الموت فيما يعرف بطلاق الفار، وذهب المالكية فى قول إلى أنه فى حال ثبوت صفة الفرار بالطلاق فإن المطلقة ترث من مطلقها أبداً حتى ولو تزوجت بعد انتهاء عدتها بآخر. هكذا صارت المنافسة بين الفقهاء فى تأمين المرأة مالياً وتفسير الشك لصالحها كإجراء عملى بالتوصية خيراً بالنساء، وليس مجرد كلام عاطفى مرسل.
وفى نظرى أن أولياء أمور هذا العصر وبخاصة مع تلك الروح الإيمانية والأخلاقية عالية المستوى التى يتمتع بها الرئيس عبدالفتاح السيسى أن يحمى المرأة فى هذا العصر من إضاعة حقها المالى بمثل ما قام بحمايته سيدنا عثمان الذى قضى بتوريث زوجة الفار بطلاقها، وذلك بقانون يصدر من سطر واحد يقرر بقاء معاش المرأة من زوجها أو من أبيها إذا تزوجت ولم تكن عاملة؛ حتى نحمى النساء المصريات من الخضوع للزواج العرفى انكساراً لحاجتها المالية المستحقة؛ خاصة أن المعاش الذى تحصل عليه المرأة هو من ريع مدخرات التأمينات الذى ساهم فيه أبوها أو زوجها الأول والذى كان كل منهما بمساهمته فى رأس مال التأمينات قاصداً إلى تأمين ابنته أو زوجته من بعده لتعيش عزيزة غير منكسرة. فهل من مستجيب لنداء الله فى التوصية بالنساء خيراً بإجراء فاعل وليس مجرد شعارات.