فرح الشعب المصرى بإزاحة حكم الإخوان فى الثلاثين من يونيو سنة 2013م بعد استيلائه على حكم مصر لمدة سنة كاملة بأخس طريق وأقبحه وهو التجارة بالدين، وزعم إتيانه بما سماه المشروع الإسلامى وكأنه مبعوث العناية الإلهية، ما يقوله إسلام وما يفرزه إسلام، حتى قال أحدهم إن صرفهم الصحى إسلامى، وصكوكهم التجارية إسلامية، وحزبهم السياسى إسلامى، دون خوف أو خشية من تحذير الله عز وجل من الإفك عليه وهو القائل: «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون» (البقرة: 79)، وقال جل شأنه: «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» (النحل: 116).
وكان المنطق الطبيعى الذى جعله الله تعالى سنة كونية فيمن يتغول على الناس باسم الدين أن يخذله كما خذل فرعون الذى قال للمصريين: «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» (غافر: 29)، وتحت شعار مرجعيته الدينية للشعب المصرى فعل ما فعل بهم من فساد وإفساد باسم الدين كما قال سبحانه: «إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين» (القصص: 4)، وكان هذا الإفساد باسم الدين؛ بدلالة استسلام الشعب المصرى لزعامته الدينية بعد إشاعته أنه الممثل الرسمى للدين، والمتحدث الحصرى عن الله سبحانه عندما قال للمصريين: «ما علمت لكم من إله غيرى» (القصص: 38)، أى ما علمت لكم أحداً يحدثكم عن الله غيرى، فهو يعلم كما يعلم المصريون أنه بشر ولد كسائر الناس، وسيموت كسائر الخلق فليس إلهاً حقيقياً، ولكنه يقصد أنه المرجع الوحيد لبيان مراد الله سبحانه، وهذا المعنى نفسه هو ما يعلنه مرشد الإخوان لأتباعه، وأمير السلفيين لأتباعه، وكل طاغية دينى لأتباعه، ثم تكون الغلبة للطاغية الأكثر عدداً حتى يظن أن الله تعالى نسيه فيأخذه ولا يفلته كما قال سبحانه: «وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد» (هود: 102). وهذا ما رآه المصريون رأى العين فى الإخوان المسلمين أحفاد فرعون صاحب التجارة المصرية الأولى بالدين.
والعجب، بعد فضل الله عز وجل الذى نجى المصريين من تجار الدين الإخوان، أن نرتد بعودة تلك التجارة الشنيعة فى حق الله جزئياً بتصريح السيد وزير المالية بطرح ما سماه الصكوك الإسلامية فى شهر يوليو المقبل بنظام الإجارة كما نشرته جريدة «اليوم السابع» يوم الجمعة الماضى الأول من مايو 2015م. إن الصكوك متساوية القيمة فى المشروع الواحد الذى يدار مالياً من صندوق واحد. والصك عبارة عن وثيقة تفيد بأن صاحبها قد دفع مبلغاً معيناً لمُصدرها بقصد الاستثمار فى نشاط تجارى أو صناعى أو زراعى أو تقنى إما بنظام المشاركة أو المضاربة أو الوكالة فى الأعيان (البيع) أو المنافع (الإجارة)، وكل هذه الصيغ إنسانية قبل مجىء الإسلام الخاتم وبعده، فكيف بوزير المالية المصرى أن يصفها بالإسلامية إلا أن يقصد تسويقها فى أوساط العوام من المسلمين لاستغلال براءتهم فى حب دينهم أن يقبلوا على شرائها، وهذا هو المقصود بالتجارة الدينية فى الصكوك. إن مجمع الفقه الإسلامى التابع لمنظمة الدول الإسلامية قد تدارس تلك الصكوك سنة 1988م واعتمدها باسم صكوك الاستثمار وليس باسم الصكوك الإسلامية. ومن قبله قانون سندات المقارضة الأردنى الصادر سنة 1981م قد اعتمدها باسم صكوك المقارضة (المضاربة) وليس باسم الصكوك الإسلامية. وفى الأساس هى صكوك من ابتكار أوروبى منذ أكثر من مائة وخمسين سنة كعادة الأوروبيين الذين يرون فى تطوير المعاملات وتجديد صيغ العقود تنشيطاً للتجارة، فبعد أن ابتدعوا فكرة الأسهم والسندات فى بداية الثورة الصناعية منتصف القرن الثامن عشر استحدثوا فكرة الإجارة المنتهية بالتمليك أو البيع الإيجارى الذى يعده الفقه الإسلامى من تجديداته المعاصرة فى العقود الأخيرة مع أنه مقنن فى القانون الفرنسى الصادر سنة 1846م، ثم ابتكر الأوروبيون فكرة الصكوك الاستثمارية من خلال فكرة صناديق الاستثمار التى نشأت لأول مرة فى لندن سنة 1868م ثم انتشرت فى فرنسا وهولندا حتى ذاع صيتها سنة 1940م، واعترفت مصر بنشاط صناديق الاستثمار التى تقوم على فكرة الصكوك رسمياً بصدور قانون سوق رأس المال رقم 95 لسنة 1992م حيث أجازت المادة 35 منه إنشاء صناديق تهدف إلى استثمار المدخرات فى الأوراق المالية فى الحدود ووفقاً للأوضاع التى تبينها اللائحة التنفيذية التى صدرت بالقرار الصادر من وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية المصرى رقم 135 لسنة 1993م وتم بالفعل تكوين أول صندوق فى مصر سنة 1994م.
إن الأمانة توجب على وزير المالية المصرى أن يساير التطور العالمى فى صيغ استثمار المدخرات وفقاً للأصول المرعية، ومنها الصكوك التى تأخر المصريون فى الأخذ بها عن دول عربية أخرى سنين طويلة دون التجارة الدينية بوصفها بـ«الإسلامية»؛ حتى لا نكذب على الإسلام، فكل عمل بشرى -مهما كان ضبطه بالفقه- صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب، فكيف يوصف بالإسلامى إلا أن يغتر الفقيه بأن اجتهاده صواب مطلق وكأنه يعلم الغيب الذى لم يعلمه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أو أن يكون القصد من صفة الإسلامية استجلاب الأتباع كتجارة بالدين.
إن من حق الإنسان أن يصف نفسه بالمسلم وعمله بعمل مسلم، وليس من حقه أن يصف نفسه أو عمله بالإسلامى؛ لأن الإسلام دين معصوم والمسلم تابع غير معصوم، فصفة البشرية فيه تجعل تدينه وفقهه دائراً بين الصواب وبين الخطأ حتى تكثر المنافسة الفقهية وتزداد لصالح الإنسان ولا تقتصر على الكهنة الذين يصفون أنفسهم بالدين وليس بالتدين، أو بالإسلام وليس بالمسلمين، مع أن الله تعالى قد علمنا كيف نصف أنفسنا مع الدين فقال سبحانه: «ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إننى من المسلمين» (فصلت: 33)، ولم يقل إننى من الإسلاميين. وقال تعالى: «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك» (البقرة: 128)، ولم يقل واجعلنا إسلاميين لك ومن ذريتنا أمة إسلامية لك. نحن مسلمون ولسنا إسلاميين. صكوكنا استثمارية وليست إسلامية، وكفى تجارة بالإسلام حتى لا يهلكنا الله كما أهلك المتاجرين بدينه على مر العصور.