لا ألوم وزير العدل، على تصريحه بعدم جواز تولية «ابن الزبال» منصباً قضائياً، فالحقيقة أن ما قاله الرجل هو عقيدة راسخة منذ عقود، فى جميع المؤسسات الحيوية، التى تنظر إلى الشعب باعتباره حفنة من الكائنات الوضيعة التى يجب أن تبوس أياديها «وش وضهر» على السماح لها بتنفس نفس الهواء الذى يمر قبلهم على أنوف أصحاب المعالى سيادات المستشارين واللواءات ورجال الأعمال.
منذ 30 يونيو 2013، يتباهى الرئيس الحالى عبدالفتاح السيسى، برقم المتظاهرين الذين خرجوا للإطاحة بالإخوان من الحكم، لم يكن بين هؤلاء المتظاهرين فى الشوارع لواء شرطة ولا وكيل نيابة ولا مستشار ولا رجل أعمال. وقبل إعلان ترشحه للرئاسة أطلق الرئيس عبارته الشهيرة «إنتوا مش عارفين إن انتو نور عينينا»، وكانت الكلمة موجهة للجميع، فانخدع فى تفسيرها الجميع، لكن وزير العدل فى حكومة السيسى الأخيرة، أزال الحيرة والالتباس، وحدد لنا من هم نور «عيون الدولة»، وبالتأكيد ليس أبناء الزبالين بين هؤلاء.
خرج أبناء الزبالين والنقاشين والمبلطين والحمالين والنجارين والبنائين والباعة المتجولين والسباكين والسائقين والتباعين وأصحاب ورش تصليح الأحذية والسائقين والمتسولين وأطفال الشوارع والحالمين بالعدل والخبز، خرجوا للإطاحة بالإخوان، وكانوا من ضمن الملايين التى انتخبت عبدالفتاح السيسى، وها هى مكافأتهم تأتى أخيراً: لا مكان لكم فى بلادكم. هؤلاء هم الذين تجبرهم الحياة الظالمة على البحث عن أوطان أخرى أو البحث عن أرزاق فى أوطان أخرى، تحت رحمة كفيل فى دولة خليجية أو تحت رحمة موج البحر الأبيض المتوسط، وينتهى الأمر ببعضهم على يد سياف «داعش».
سيموت الفقراء دائماً، وسيدفع الفقراء وحدهم ثمن الثورات الخائبة المخطوفة، ولن يذكرهم أحد إلا حين يعلن حرمانهم من حقوقهم فى العدل والمساواة، بينما يرفع النظام راية العدل ويتاجر بمستقبل الفقراء. ونحن نتكلم هنا ونكتب بينما تدهس دولة محفوظ صابر فى طريقها كل فقير ظن أن الحياة ابتسمت له أخيراً بعد ثورتين، ونحن نتكلم هنا ونكتب بينما لم تصدر عن الرئيس أو رئيس حكومته كلمة واحدة عن صراحة وزير عدله، لم يصدر الرئيس العادل قراراً بإقالة قاتل العدل، وربما لن يصدر.
سينتهى الأمر كالعادة، سيقولون إنها مجرد زلة لسان، تماماً مثلما اتهموا عقب السيجارة والماس الكهربائى بأنهما وراء كل حرائق البلاد، ومثلما كانوا يتهمون كل قاتل بأنه مختل عقلياً، ومثلما يدافعون عن كل طبيب قتل مريضه بالقول إن الوفاة بسبب هبوط حاد فى الدورة الدموية، ومثلما سيبررون رصاصة القتل بهشاشة جسد القتيل، سنبقى هكذا: دولة للفوضى، تحترم الباشا ابن الباشا حفيد الباشا وتخصص له الأراضى وتبنى له المجمعات السكنية الفاخرة، وتتركنا نحن أبناء الزبالين فى خرائبنا الشاسعة التى نسميها أوطاناً.