"لا تصالح".. صرخة واحدة و7 أصداء
يد مرتعشة لـ"فارس الزمان الوحيد" تخطو على الورق الأبيض يحركها الغضب والثورة، لتظل ما كتبت هي صرخة الغضب الباقية ضد الخيانة عشرات السنين، حروف شكلت أبجدية الرفض الخالدة وفنًا رفيعًا يعبر الأزمنة، ليست مجرد شعارات وعبارات رنانة، تكون القراءة العميقة لواقع اجتماعي وسياسي، ورؤية لشاعر "بصار" تجاوز حدود المكان والزمان، ويصبح أمل دنقل بـ "لا تصالح" أمير شعراء الرفض.
بدأ أمل دنقل في كتابة "لا تصالح"، في السبعينات خلال فترة المصالحة التي قادها الرئيس الراحل محمد أنور السادات مع إسرائيل، لتعبر عن الكثير مع المشاعر المتضاربة والمختلطة لدي عدد كبير من المصريين متسائلين عن واقع الشهداء الذين سقطوا خلال الحرب برصاص الغدر الإسرائيلي لتمتد الأيدي المصرية لمصافحة الأيدي الملوثة بدماء أبنائهم، ويردد دنقل من خلفهم "هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟، أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء تلبس فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟، إنها الحربُ، قد تثقل القلبَ لكن خلفك عار العرب لا تصالحْ ولا تتوخَّ الهرب".
بالرغم أن القصيدة تناول بوضوح "معاهدة السلام" إلا أن الكاتب استخدم رمزية شعرية من خلال صياغة جديدة لحرب البسوس لإسقاطها على الواقع، فالقصة الأصلية التي تدور حول مقتل "كليب" على يد أبناء عمومته كتب بدمه لأخيه "الزير سالم" عشر أبيات يرفض فيها المصالحة والمسامحة في دمه، ليشن بعدها الحرب علي أبناء عمومه وامتدت إلى ما يقرب من أربعين عام واضعًا شرط عبثي لوقفها وهو عودة كليب مرة أخرى للحياة.
"لا تصالح على الدم.. حتى بدم، لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟ أعيناه عينا أخيك؟ وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟".. فنجحت القصيدة أن تعبر عن الحالة الانفعالية للشاعر ممتزجة بوعيه وهويته العربية وعصبيته المصرية، ونجح من خلالها أن يضع يده وبشدة على الجرح النازف في جسد الأمة، فصرخ ليشعل الثورة الكامنة في النفوس.
تم استدعاء القصيدة على مر سنوات عديدة في الثمانينات والتسعينات، وخلال الحرب على غزة والصراع "العربي الإسرائيلي" فأصبح بها أصبحت مثال لرفض المواقف الرمادية، فقصائده صالحة للاستخدام الآن ويمكن تأويلها لعدة تأويلات متجاوزة حدود الزمان، لتعود في عام 2011 للتعبير عن ثورة يناير ورفض كل من تلوثت يده بدماء الشهداء، كما استخدمت بعد أحداث الاتحادية كرفض لجماعة الإخوان ورفض ممارستها العنيفة ضد المعتصمين.
وبعد التخلص من الإخوان في الحياة السياسية، دعا البعض بمبادرة "التصالح من أجل الوطن" في محاولة منهم غسل يد الإخوان من دماء المصريين، لكن الرد كان واضحا وصريحا تكفلت به القصيدة، وأصبح "لا تصالح" شعار رفعته معظم القوى السياسية على الساحة ممتزجة بتأيد شعبي ترفض أي نوع من المصالحة مع الجماعة، بخاصة بعد عدد كبير من العمليات الإرهابية في سيناء ضد المجندين في الجيش المصري، فتحمل القصيدة بين طايتها أصوات المناضلين وصرخات الوطن وبكاء الأمهات رافضة التصالح.
"الفن زي القطط بسبع أرواح"، هكذا فسر الأمر الكاتب الصحفي صلاح عيسى، مشيرًا إلى أن الفن الجميل الهادف لا يقف عند حاجز الزمن أو الحدث وهذا ما عبرت عنه قصيدة دنقل، فالقصيدة تتناول مشاعر وآراء تصلح في عدد كبير من المراحل التي مرت بها التجربة المصرية منذ اندلاع ثورة يناير مرورًا بجميع الأحداث حتى الآن، فحادث مقتل كليب في حرب البسوس تم إسقاطه على المصالحة مع إسرائيل مع عهد السادات، وهو ما تم في الوقت الحالي مع طلب المصالحة مع الإخوان أو كل من تورط في أحداث سوداء مرت على مصر"، وأضاف عيسى أن العامل النفسي هو الذي يساعد على الاستدعاء للقصيدة، وليس بالضرورة وجود تطابق أو تشابه تاريخي بين الحداث، حيث إن الشعر عامة والقصيدة خاصة حالة فنية تضم بين ثناياها حالة نفسية لمنتج فني واسع يستطيع أن يستوعب المزيد من التأويلات على مدار قرون.
يرى الشاعر زين العابدين فؤاد، أن العبقرية تقبع في تناول الراحل أمل دنقل للقصيدة، فأخرج عملا فنيا عظيما خارج إطار العمل الفني في جوهره بعيدًا عن الإشارات التاريخية، فقال "أشعار أمل تمس القلب بطريقة خاصة، حيث شقت طريقها في قلوب الشباب مش مجرد من يحترف منهم الشعر فقط، بل أن ما يقرب من 40 فنانا نظموا معرض للجرافيتي رسموا من خلاله أشعار أمل على لوحات وعلى الجدران"، مؤكدًا أن العمل الجيد يفرض نفسه وبقوة في أذهان الناس ولا يتعلق بوقت أو أحداث معينة، فيستدعي البعض أبياتا شعرية تعود للعصر الجاهلي لأن الفن له دورة حياة خاصة وخالدة.
"لن نصالح ولن نسامح ولن نصافح" شعار رفعه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في واجه المطالبة بالمصالحة مع الجماعة الإرهابية، فقال إن القصيدة قبل أن تتناول قيمة جمالية تناولت قيمة أخلاقية ترفض المصالحة مع من أرتكب جريمة ويمد يده بالمصالحة بينما تقطر من يديه دماء من قتلهم، وأضاف حجازي أن أمل دنقل نجح في إحياء الماضي في الحاضر فقدم أبياتا أشبه بثورة رافضة، فأبيات القصيدة ترتبط بشدة مع واقع جماعة الإخوان، حينما رفض سالم المصالحة مع أبناء عمومته بعد مقتل أخيه كليب غدرًا على يديهم، وأقسم أن يحاربهم بكل ما أوتى من قوة، رافضًا بأي بديل عن دم أخيه إلا بعدم التصالح والانتقام ممن قتلوه، بالضبط مثل ما يحدث مع الجماعة عندما طالبت بالمصالحة السياسية مع المصرين بعد أن تلوثت أيديهم بدماء الشعب المصري، فنحن نرفض المصالحة ونطالب بالقصاص من كل من حمل السلاح.
"كل شيء تحطم في لحظة عابرة الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعما في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة، كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة والذي اغتالني ليس ربًا.. ليقتلني بمشيئته، ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته، ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة"، فتقول الكاتبة عبلة الرويني، زوجة الكاتب الراحل: "لا تصالح" لا تعتبر مجرد قصيدة شعرية كتبها دنقل لرفض وضع أو سياسة معينة، بل أصبحت نشيدا ثوريا للرافضين، مس بها أرواحهم ووجدانهم قبل أذنهم.
وتابعت الرويني "استخدام القصيدة في مواقف وأوضاع متناقضة ماهي إلا دلالة واضحة على عبقرية دنقل في أن يعبر بها جميع الحواجز، فاستخدمها الثوار ضد جماعة الإخوان بعد أحداث الاتحادية، كما استخدمتها جماعة الإخوان بعد أحداث رابعة لرفضهم التصالح مع الشرطة والجيش المصري، واستخدمها من قبلهم ثوار يناير ضد النظام السابق".