"الوطن" تنفرد بنشر دراسة موضوعية حاسمة فى شروط قبول القاضى واستمراره
تنفرد «الوطن» بنشر دراسة موضوعية حاسمة فى شروط قبول القاضى واستمراره، أعدها المستشار الدكتور خيرى الكباش الرئيس بمحكمة الاستئناف.
وشدد «الكباش»، فى مقدمة دراسته، على أنه لا يمكن أن تتحقق العدالة المنصفة والناجزة إلا من خلال قضاة علماء يتسمون بحُسن الخلق، ودفاع يتجاور مع قضاة المنصة العالية بعلمه وحكمته وحُسن خلقه.
وتابع: إذا كان سلطان القانون ملزماً لأطراف العدالة بقواعده النافذة فى النظام القانونى الخاضعين له، فإن سلطان الضمير أقوى فى التزاماته من القواعد القانونية على كل من أطراف الدعوى الجنائية، وهو ما يستدعى تعرف ماهية «سلطان الضمير»
وأضافت الدراسة: ورد نص قاطع الدلالة فى ضمانات استقلال السلطة القضائية عن باقى السلطات فى الدولة، هو نص «القضاة مستقلون، ولا سلطان عليهم فى أداء واجباتهم لغير القانون وضمائرهم».
وقد تواترت قراءة هذا النص على أنه يقطع بعدم جواز تدخل أى سلطة فى الدولة فى عمل القضاء، كتعبير صريح عن استقلال القضاء، كضمانة من ضمانات حماية الحقوق والحريات فى المجتمع.
وهذه قراءة صحيحة للنص فى إطار الموضع الذى ورد فيه، سواء فى الدستور أو فى قانون السلطة القضائية، ولكن للنص قراءة أخرى تُمثل الوجه الآخر له يجب اعتبارها، فمن حيث لا يخضع القاضى فى أداء واجباته لأى سلطة من سلطات الدولة كضمانة لاستقلاله وسنداً لحياده ونزاهته، إلا أنه يخضع فى أداء واجبه بالقضاء بين الناس فيما يُعرض عليه من قضايا لكل من سلطان القانون وسلطان الضمير.
وكونه يخضع لسلطان القانون فى أداء واجباته، فإن ذلك يعنى وبحكم اللزوم محاسبته على مخالفة القواعد القانونية المنظمة لعمله القضائى، أياً كان مصدرها؛ «الدستور، قانون السلطة القضائية، قانون المرافعات المدنية، قانون الإجراءات الجزائية، قانون الإثبات.. إلخ». ويتحدد نطاق هذه الالتزامات «سلطان القانون» بالقواعد التى تنظم عمل القاضى المنوط به.
وكونه يخضع لسلطان الضمير فى أداء واجباته فإن ذلك يعنى الاعتراف بوجود التزامات أخلاقية يلتزم القاضى بتحقيقها فى قضائه، ويُحاسب على الإخلال بها أو ببعضها حساباً قد يصل إلى فقدان صلاحيته للقضاء.
ويُعتبر استخدام المشرِّع لهذا المصطلح «سلطان القانون، سلطان الضمير» مقصوداً فى هذا المجال، بمعنى أحكام القانون وأحكام الضمير الملزمة بذاتها.
وتابعت: إن توافر الالتزامات الأخلاقية للقاضى يُعتبر شرطاً لقبول المتقدم للعمل فى القضاء، بجانب المؤهلات الدراسية المطلوبة وغيرها من الشروط، وهى فى ذات الآن شرط لاستمرار صلاحيته للعمل فى القضاء، أى أنها تُعتبر شرطاً للقبول وشرطاً للاستمرار فى العمل القضائى.
وعليه كان سلطان الضمير هو المصدر المباشر للالتزامات الأخلاقية للقاضى فى أداء واجباته، وهو ما يعنى ضرورة «وجوب» أن يؤدى القاضى واجباته القضائية وفقاً لما يتطلبه منه سلطان ضميره عليه، أى وفقاً لما تتطلبه التزاماته الأخلاقية، وبذلك تتحول الالتزامات الأخلاقية للقاضى من مجرد سمات يُمدح بها القاضى أو يُذم، كما كنا نتصور من قبل، إلى التزامات ملموسة يُحاسب عليها القاضى إذا ما أخلَّ بأحدها فى أداء واجباته، فهذه هى القراءة الأخرى لسلطان الضمير، وما يترتب عليه من التزامات أخلاقية للقاضى.[FirstQuote]
وقد تعبر بعض القوانين عن ذلك بوجوب توافر شرط أخلاقى، هو أن يكون القاضى حَسن السيرة وحَسن السلوك.
وهذا ما أكدت عليه الأحكام الصادرة من دائرة طلبات رجال القضاء فى مصر، عند نظرها للطلبات المرفوعة بالتظلم من قرارات مجلس التأديب، بقولها: «إن من الأمور المُسلَّم بها أن تخلف شرط من شروط الصلاحية لتولى وظائف القضاء يمنع من التعيين فى تلك الوظائف أو البقاء فيها. ومن بين تلك الشروط التى حددها قانون السلطة القضائية، أن يكون المرشح للتعيين فى القضاء محمود السيرة وحَسن السمعة، ويندرج تحت هذا الشرط، السلوك الأخلاقى بأدق معانيه وأوسعها، إذ يجب أن يكون المرشح على خُلق قويم غير منحرف انحرافاً يؤثر على عمله فى وظيفته ويؤثر على سيرته وسمعته، بحيث لا يكون جديراً بالاحترام بين مواطنيه.
وسمعة القاضى أو عضو النيابة العامة يمكن أن تتأثر بمسلكه الشخصى أو الخُلقى، كما أن مستوى حُسن السمعة يتفاوت تبعاً لاختلاف الوظيفة وخطورتها ومسئولياتها.
فما قد تتساهل فيه الإدارة بالنسبة لوظائف معينة، قد تتشدد فيه بالنسبة لوظائف أخرى كالقضاء، لما لهذه الوظائف من أهمية وخطورة تتطلب فيمن يشغلها مستوى خاصاً من حُسن السمعة.
واستعرضت الدراسة المقصود بسلطان الضمير كمصدر للالتزامات الأخلاقية للقاضى، وقالت إن سلطان الضمير يعنى فى حقيقته كافة الالتزامات الأخلاقية للقاضى، مما يجعل من احترام هذه الالتزامات وتطبيقها فى كل عمل قضائى واجباً ينال من صلاحية القاضى للقضاء إذا ما أخلَّ بأحدها، ومن باب أولى إذا ما أخلَّ بها جميعاً.
وسلطان الضمير، الوارد فى الدستور والقوانين النافذة، لا يعنى ضمير القاضى كما يراه كل قاضٍ من القضاة على حدة، وكما يحلو له أن يراه من حيث نطاق مفردات الضمير أو من حيث مدى الالتزام به، ولكن معياره يُستمد من مبادئ التشريع الإسلامى التى أرساها قاضى قضاة البشرية سيدنا محمد رسول الله.
فلا يكفى أن تُقدَّم العدالة وتُدار بشكل جيد، بل يجب أن يصاحبها شعور الأفراد بحياديتها وسلامتها، وهذا لا يتحقق إلا إذا تحلى أعضاء السلطة القضائية بالقيم والقواعد السلوكية التى رسختها الأعراف القضائية والتى من شأنها أن تصون استقلالهم، وتعبر عن تجردهم وحيادهم، وتجعلهم بمنأى عن أى شبهة، وتولد الإحساس التام والشعور الكامل لدى الأفراد بشرعية وحيادية ونزاهة أعمالهم القضائية.
وقد أكدت محكمة النقض المصرية على هذا المعنى عندما فرقت بين ضمانة عدم قابلية القضاة وأعضاء النيابة العامة للعزل الواردة بالدستور وبين الحكم بعزل القاضى أو عضو النيابة العامة الصادر من مجلس تأديب القضاة.
كما تطرقت الدراسة إلى ماهية الالتزامات الأخلاقية للقاضى ومغزاها، ولخصتها على النحو التالى:
1- وجب على القاضى أن يكون مخلصاً لعمله مستقيماً فى سيرته وسلوكه ومتمتّعاً بالكفاءة العلمية وملمّاً بثقافة فقهية وقانونية وقضائية وأن يسعى دائماً إلى تنميتها وتحسينها.
2- وجب على القاضى أن يتوخّى نشدان العدالة والنزاهة وأن يكون عفيفاً وقوراً، وأن يلتزم بسلوكه بكل ما يحفظ كرامته ويصون سمعته وسمعة القضاة، وأن يبتعد عن كل ما يشينه ويُسىء إليه أو يحطّ من قدر منصبه. فالعدالة المطلوبة هى اعتدال الشخص فى أقواله وأفعاله وصلاح دينه وأخلاقه والتحلّى بالمروءة.
3- وجب على القاضى أن يتمتّع بالعفّة والورع من خلال أن يكون نزيهاً عن المطامع الدنية ورعاً عن المطامع الردية شديداً قوياً فى ذات الله متيقّظاً متخوّفاً من غضب الله.
4- وجب على القاضى أن يكون فطناً متيقظاً من خلال تمتّعه بذهن وقريحة يقظة وبوحدة العقل والخاطر وبقوة الإدراك وكثرة التحرّر وبصفاء الفكر وسلامته.
5- وجب على القاضى أن يسوى بين الخصوم فى خمس حالات: فى الدخول عليهم، فى الجلوس بين يديه، فى الإقبال عليهم، فى الاستماع منهم، فى الحكم عليهم.
وأوضحت الدراسة ماهية كل التزام أخلاقى للقاضى على النحو التالى:
أولاً: الالتزام بالفهم الصحيح لما يُعرض عليه للقضاء فيه، فأول ما يجب على القاضى عمله هو الفهم الصحيح لكل ما يُعرض عليه للقضاء فيه، فيقرأ أوراق ملف الدعوى أو القضية بعناية ووعى ويستوعب حقيقة المعروض عليه، ويحدد بوضوح عناصر الموضوع وسند المتقاضى فيه، كما يحدد وجه النقص فى الأدلة وسُبل استكمالها والطرف الملتزم بذلك، أو يكلف النيابة العامة فى القضايا الجنائية أو الخصوم فى القضايا غير الجنائية باستكمالها قبل أن يقضى فى الدعوى؛ وذلك لأن الفهم القاصر أو الخاطئ سوف يترتب عليه تطبيق خاطئ للقانون، وظُلم بيِّن للمتقاضين سواء كان الفهم الخاطئ للواقعة أو لنص القانون.
وأوضحت الدراسة أن الإخلال بالالتزام بالفهم الصحيح لما يُعرض على القاضى بحسبانه من الالتزامات الأخلاقية للقاضى لا يرتب فى ذاته جزاءً ملموساً على القاضى نفسه من الناحية التشريعية إلا إذا كان هذا الخطأ منه يرقى إلى مرتبة الخطأ المهنى الجسيم الذى يخول لذوى الشأن المتضررين من قضائه مخاصمته قضائياً «بشخصه» وفقاً لما تنص عليه المواد من 197 وحتى 202 من قانون الإجراءات المدنية.[SecondQuote]
أما إذا وقع منه غش أو تدليس فإن ذلك يتعارض مع التزاماته الأخلاقية كليةً، ومن ثم يفقد القاضى شرط الصلاحية للاستمرار فى العمل القضائى وعندئذٍ تتعانق الالتزامات الأخلاقية للقاضى مع التزاماته القانونية النافذة لتؤدى إلى صون العدالة من العبث وصون القاضى من الذلل، ومن باب أولى من الوقوع فيما يُفقده صلاحية القضاء. فالفهم الصحيح لما يُعرض على القاضى هو أول طريق النجاة للقاضى والقضاء والمتقاضين.
ثانياً: التجرّد والحياد، فالتجرّد حالة ذهنية تعكس الصفاء النفسى لدى القاضى وتنمّ عن استعداده لممارسة وظائفه مجتنباً الأفكار المسبقة، ومستعدّاً للتحليل المُجدى قبل اتّخاذ القرار، ومترفّعاً عن كل منفعة، ورافضاً أى مفاضلة بين المتقاضين.
والحياد هو وجه من وجوه التجرّد وهو أن تُؤاسى «بين الناس فى وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف فى حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك». وليس من حقّ القاضى أن يمارس أى نوع من أنواع الانتقائية فيما يتّخذه من قرارات. كما ليس من حقّه أن يختار على هواه، أو على هوى سواه من المقرّبين أو النافذين أو الساعين أو المنتفعين.
وقد تدخل المشرّع لتحقيق التوازن التشريعى بين المحافظة على حق المتقاضين فى رد القضاة إذا توافرت أسبابه وبين تقرير ضوابط دقيقة تجعل من ممارسة هذا الحق منوطاً بتوافر الحيدة والبعد عن العبث والحيلولة دون استخدامه للكيد وعرقلة الفصل فى القضايا والإساءة إلى القضاة.
ومن بين وجوه الحياد ما يلى:
1- المساواة، ويتجلّى تطبيق مبدأ المساواة عندما يُدرك القاضى أنّ مجتمعه يضمّ أفراداً وجماعات يُفرّق بينهم الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو الجنسية أو العمر أو الجنس أو الحالة المدنية أو القدرات الجسدية والنفسية، أو منازع أخرى شتّى.. فيمتنع، لدى ممارسة وظائفه القضائية، سواء عن طريق الكلام أو التصرّف أو القرار، عن الانحياز إلى هذا دون ذاك منهم.
ويتجلّى أيضاً بمعاملة المحامين، وأطراف النزاع، والشهود، والمساعدين القضائيين، والخبراء، وسائر المعاونين، فضلاً عن زملائه القضاة، معاملة لا تمييز فيها بسبب الاختلافات المذكورة آنفاً. كما أنه لا يسمح لكل المعاونين له بممارسة التمييز ذاته. ويطال هذا المنع المحامين، إلاّ إذا كان ما يركّزون عليه من ظواهر تمييز يدخل فى صلب الدعوى ويؤمّن حقّ الدفاع المشروع.
وقد ظهرت عدة اصطلاحات للتعبير عن مبدأ المساواة، فذهب البعض إلى التمييز بين المساواة أمام القانون والمساواة داخل القانون، والمساواة بواسطة القانون.
أ- المساواة أمام القانون: يقصد بها أن القانون يجب تطبيقه بالطريقة نفسها على الجميع مهما كانت مستوياتهم، باعتبار أن القانون بقواعده العامة المجردة ينطبق على الجميع بغير استثناء. وتعزيزاً لذلك وتطبيقاً له كان للمحكمة الدستورية العليا فى مصر موقف حاسم فى هذا الصدد، حيث أصدرت عدداً من الأحكام تعتبر ضمانات قانونية وقضائية لحماية مبدأ المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم فى حماية حقوقهم بسبب الدين.
ب- المساواة داخل القانون فيقصد بها أن القانون يجب أن يكون عادلاً، أى يقرر معاملة واحدة للمراكز القانونية الواحدة، بينما يقرر معاملة مختلفة للمراكز المختلفة.
ج- ويقصد بالمساواة بواسطة القانون إمكان تقرير معاملة واحدة لمراكز واحدة أو العكس بالعكس إذا ما اقتضى ذلك سبب موضوعى منطقى.
2- الحقائق التى تعزّز الثقة بالقاضى: إنّ القاضى للناس قبل أن يكون لنفسه، ولا يستطيع أن يُحقّق رسالته خير تحقيق إلاّ إذا مارسَ وظائفه القضائية بالطريقة التى تعزّز الثقة به، وتقلّل أو تلاشى الفُرص التى تدفع المتقاضين إلى طلب ردّه.
3- المبادرة التلقائية للتنحّى عند توافر الأسباب: وجوب مبادرة القاضى إلى التنحّى تلقائياً كلما توافرت الأسباب الملحوظة فى القانون أو كلما اعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ هناك أسباباً جدّية تدعو أىّ مراقب منصف وعارف وغير متحيّز إلى الشكّ بأن ثمة تضارباً بين ممارسة وظيفته القضائية وبين مصلحته الخاصة أو مصلحة من يرتبط وإيّاهم بروابط القرابة أو الودّ أو الشراكة.
4- احترام الفرقاء وحقوقهم فى الدفاع: على القاضى أن يحافظ على اللياقة فى إجراءات المحاكمة وأن يكون صبوراً وقوراً لطيفاً مع المتقاضين والمحامين والشهود والخبراء وغيرهم ممن يتعامل معهم فى المحكمة، وأن يطلب مسلكاً مماثلاً من المحامين وموظفى المحكمة والمتقاضين.
5- إدارة شئونه الذاتية ومشاريعه المالية: على القاضى، فى أىّ حال، أن يدير شئونه الذاتية ومشاريعه المالية بالشكل الذى يُضيّق إلى أقصى الحدود فرص طلب ردّه أو احتمالات تنحيّه التلقائى. فينبغى عليه الامتناع عن ممارسة أنشطة مالية وتجارية قد تضرّ بحياده وإنصافه أو تؤثّر على أدائه لمهامه القضائية، أو تعتمد على استغلاله لمنصبه القضائى أو تنطوى على اشتراكه فى معاملات تجارية متكرّرة مع محامين أو أشخاص آخرين يحتمل مثولهم أمام المحكمة التى يعمل فيها.
6- المراقبة الذاتية للسلوك: على القاضى مراقبة سلوكه مراقبة ذاتيّة صارمة، داخل المحكمة وخارجها، حتى يظفر بثقة واحترام المتقاضين ووكلائهم، والجمهور. هذا مع العلم بأنّ التشكيك بسلوك بعض القضاة يؤذى القضاء برمّته، ويزعزع الثقة به.
ثالثاً: البشاشة وسعة الصدر والتحذير من الغضب، حيث عرضت الدراسة فى شرحها لهذا الالتزام الأخلاقى وأكدت أنه من الحقائق التى يجب أن يعلم القاضى بها ويعتبرها فى مجلس قضائه أن الإنسان لا يكون أكثر ضعفاً إلا أمام قاضيه وطبيبه مهما كانت مكانته أو حسبه ونسبه وثقافته. ومؤدّى هذه الحقيقة هو عجز المتقاضى تماماً عن الدفاع عن نفسه أو التعبير السليم أو المنطقى أو الكامل عما يريد قوله لقاضيه إذا بدا له قاضيه بوجه عبوس وسأله بلهجة غاضبة وتعجّله فيما يقول لينظر فى أمر المتقاضى الذى بعده أو ليُنهى الجلسة ويرفعها لينصرف من مجلس قضائه، ثم يأخذ القاضى من تلعثُم المتقاضى أو عجزه عن الكلام أو الدفاع، أو من تعارضه الظاهرى فيما يبديه من دفاع دليلاً على إدانته، ويتناسى أنه السبب المباشر فيما وقع من تلعثم أو عجز عن الدفاع أو التعارض الظاهرى فيما قرر به المتقاضى، بل والدفاع الحاضر معه إن كان لأنه لم يعطِ للدفاع فرصته فى إبداء دفاعه ودفوعه، أو لأنه عندما أصرّ الدفاع على المرافعة الشفهية أمهله ثوانى معدودة ليقول عناوين غير واضحة لدفاعه، أو يطلب منه دفاعاً مكتوباً فى القضاء الجنائى رغم أن الأصل فيه هو شفهية المرافعة.
ومن هنا يتضح أن بشاشة وجه القاضى وعدم عبوسه فى وجه المتقاضين أثناء جلسة المحاكمة، وسعة صدره لسماع أقوال المتقاضين والدفاع الحاضر معهم، وعدم غضبه من طول المرافعة، طالما خلت من التكرار، هى أخلاقيات يجب توافرها فيمن يعتلى مجلس القضاء ليحكم بين الناس بالعدل حتى تتحقق العدالة المقنعة للكافة.[ThirdQuote]
ويجب على كل قاضٍ لا يجد فى نفسه القدرة على البشاشة فى وجه المتقاضين بفطرية وسماحة، أو القدرة على سماعهم بإنصات تام وفهم عميق لما يقولون دون غضب أو عبس فى وجوههم، أن يبحث عن عمل آخر غير قضائى لأنه يفقد بذلك صلاحية القضاء بين الناس.
رابعاً: البصيرة والرحمة، إذا كانت الرحمة سمة أخلاقية سامية يتعين أن يتسم بها القاضى بصفة عامة والقاضى الجنائى بصفة خاصة، فإن التهاون فى تحقيق الردع بنوعيه لضعف العقوبة بالرغم من اطمئنان القاضى لدرجة اليقين إلى ثبوت الجريمة فى حق المتهم الذى يحاكمه واتسمت هذه الجريمة بالبشاعة والجسامة من حيث أسلوب ارتكابها وأسباب ذلك والوسيلة التى ارتكبها بها المتهم، واتسم المتهم بالخطورة الإجرامية لا يُعتبر من قبيل الرحمة، ولكن الرحمة تعنى العدالة، والأخيرة تعنى وجوب مراعاة ظروف وملابسات كل واقعة على حدة، حتى لو تشابه التكييف والوصف القانونى للوقائع المتكرر عرضها على القاضى، من حيث دور المجنى عليه فى حصول الجريمة عليه، وسبب ارتكاب الجانى لها، والوسيلة التى ارتكبها بها، ومدى إصراره على ارتكابها رغم الهدوء النفسى الذى كان عليه، والأضرار التى حدثت للمجنى عليه أو للمضرور من الجريمة بصفة عامة، ومدى تأثيرها فى حياتهم بسبب هذه الجريمة.
وهنا يكون على القاضى أن يُبصر كل ذلك بفهم صحيح، ولا يأخذ ماضى المتهم فى الاعتبار عند القطع بإدانته من عدمه، ثم يأخذ هذا الماضى للمتهم فى الاعتبار عند تقدير عقوبته، وهنا تتأكد بصيرته التى هى فى حقيقتها عقل وإدراك وفطنة ونظر نافذ إلى خفايا الأشياء؛ لأنه يكون قد مارس عمله القضائى بيده وعقله وقلبه فى آنٍ واحد، أى بفهم عميق وصحيح وبحياد وتجرد تام وقلب رحيم بطبيعته، فهذه هى البصيرة التى يجب أن يتحلى بها القاضى، فإن فقدها أو كان مفتقدها أصلاً صار قضاؤه سطحياً هشاً.
سابعاً: استشعار المسئولية الاجتماعية للقاضى، إن استشعار القاضى لمسئوليته الاجتماعية حيال المجتمع الذى يقضى بين أفراده يُعد نوعاً من التزاماته الأخلاقية الواجبة عليه، ويحقق هذا الالتزام الأخلاقى ما يُسمى بمبدأ الملاءمة، وهو ما يقابل أهمية إعمال المقاصد الشرعية فى مجال تطبيق أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية.
وعرضت الدراسة لأخلاقيات الحكم الجنائى، وأكدت أنها تنبع من أخلاقيات قاضية، وقالت الدراسة إذا كان للحكم الجنائى سواء بالبراءة أو بالإدانة كيان مستقل ويخضع للمحاكمة من الدرجة أو الطبقة الأعلى للتقاضى دون قاضية، فإن لهذا الحكم أخلاقيات يجب أن يتحلى بها بجانب اكتمال عناصره المقررة قانوناً والمستقر عليها فقهاً وقضاءً لأن اكتمال عناصره المذكورة سلفاً لا يعنى بذاته أنه توخّى الأخلاقيات التى يجب أن يتحلى بها حال كونه يحمل جينات قاضية.
فالبراءة المتعجلة تنال من هيبة القضاء واستقرار المجتمع وأمنه، وكذلك الإدانة المتعجلة، علاوة على أنها ظلمات يوم القيامة. كما يجب أن يحقق الحكم الجنائى راحة لقارئه أياً كانت ثقافته أو تخصصه حتى يكون أخلاقياً، فالحكم الذى لا يرتبط منطوقه مع أسبابه أو الذى لا تحمل أسبابه بحالتها منطوقه يفتقد لأخلاقياته ولا يريح قارئه، ومن باب أولى المحكوم عليه فى حالة الإدانة، والمجنى عليه فى حالة البراءة، فيلزم أن يكون الحكم الجنائى فى مجمله مقنعاً ومتسلسلاً ومنطقياً يجمع رغم قلة عدد كلماته بين سلامة الواقعة المنسوبة إلى المتهم واكتمالها، وبين منطقية ومعقولية وشرعية أدلة الإثبات فيها وبين تناسب مقدار العقوبة المقضى بها مع جسامة الفعل الذى ارتكبه الفاعل، مع ضرورة إظهار دور المجنى عليه فى الواقعة ومدى معقولية رد فعل الجانى بمعيار الرجل العادى لو كان مكانه فى مواجهة المجنى عليه.