كان المستشار الزند قوياً فى مواجهة الإخوان، وكان قوياً فى مقاومة محاولتهم التدخل فى شئون القضاء، حتى أصبح الرجل بالنسبة للكثيرين رمزاً من رموز مقاومة الإخوان، ومعولاً رئيسياً ساهم فى إسقاط حكمهم. سعى الإخوان للسيطرة على القضاء ليس من أجل تحقيق عدالة شاملة وناجزة، ولكن لاستكمال السيطرة على مؤسسات الدولة. روج الإخوان ورئيسهم لشبهات حامت حول بعض القضاة لتبرير سعيهم للسيطرة على القضاء. أدركت القوى السياسية وعموم الناس الحيلة الإخوانية فتجاهلوا ما روجه الإخوان عن الشبهات، وركزوا كل جهدهم لمقاومة محاولات الأخونة والسيطرة.
نجت مصر ونجا القضاء من هجمة التتار الإخوانى، وأمنا شرهم. انتقلنا من مرحلة مواجهة الإخوان بالحشود والخطب المنبرية إلى مرحلة مواجهتهم بالتنمية والتقدم والعدالة. تغلغل الإخوان فى المجتمع والدولة بسبب الترهل والفساد، فجاء وقت مواجهتهم بالإصلاح. تابع الناس صولات المستشار الزند دفاعاً عن القضاء ضد سيطرة الإخوان، والتفوا حوله ثقة فى القضاء، وحماية له من السقوط فى براثن حزبية وعقائدية الإخوان المقيتة، واليوم نريد أن نسمع من المستشار الزند حديثاً عن إصلاح القضاء يؤكد للناس أن الثقة التى وضعوها فى القضاء كانت فى محلها، ويعزز إيمانهم بمؤسسة العدالة فى زمن تطيح فيه رياح الشك بكل إيمان.
نريد إصلاحاً للقضاء يضمن الالتزام بالقانون، ويلزم النيابة والقضاء بالعمل وفقاً له، وليس وفقاً لمواءمات سياسية وغير سياسية كادت تجعل من مسألة التقاضى بحراً بلا شطآن، ومباراة بلا قواعد، وإذا كانت القوانين مقصورة على الاستجابة لاحتياجات المرحلة فلتكن لدينا الجرأة لتغييرها، ولكن حتى يحدث ذلك فالقانون القائم واجب الاحترام.
نريد إصلاحاً للقضاء يحقق الشفافية، حتى لا تتحول الأدلة والأحكام إلى ألغاز يصعب فك طلاسمها، وإلى ملفات مغلقة لا يستطيع أحد الاقتراب منها.
نريد إصلاحاً للقضاء يجعل من المبادئ المستقرة ضمانة للعدالة لا ستاراً يتم إسداله لإخفاء الحقيقة. «ليس لأحد أن يعلق على أحكام القضاء»، مبدأ قبلناه واتفقنا عليه لتحصين القاضى ضد ضغوط السلطة وأصحاب المصالح والرأى العام ضماناً للعدالة. لكن زيادة عدد الأحكام غير المفهوم دوافعها للرأى العام لن تجعل الامتناع عن التعليق على أحكام القضاء ضماناً ضد اهتزاز الهيبة وفقدان الثقة.
نريد إصلاحاً للقضاء يعزز استقلال مؤسسة العدالة فى مواجهة ضغوط السلطة وأصحاب المصالح والمجتمع، دون أن يتحول إلى امتياز لأشخاص يضعون أنفسهم فوق المحاسبة وخارج نطاق رقابة المجتمع ومؤسساته. الخيط رفيع بين الأمرين، ورسم الحدود بينهما ليس بالأمر السهل، ولكن لا مفر من رسم الحدود بدقة، فهذه هى مهمة القادة الذين يحتاج الناس إليهم للتعامل مع التحديات الصعبة، أما القضايا السهلة فإن عموم الناس كفلاء بها.
نريد إصلاحاً قضائياً يمنع تحول ساحات المحاكم إلى «فسحة» -بفتح الفاء- يتم فيها التداول حول كل شىء وأى شىء حتى لو لم تكن له صلة بالقانون وتطبيقه. فلا طرد سفراء الدول، ولا وصف الدول والمنظمات بالإرهاب أو تجريم الخصخصة أمور تقع ضمن اختصاص القضاء.
لقد التف غالبية القضاة حول «الزند» فى معركته ضد الإخوان، ففاز برئاسة نادى القضاة عدة مرات متتالية، فى إشارة واضحة للشعبية التى يتمتع بها الرجل بين قضاة مصر. القضاة محرومون من تشكيل نقابة تدافع عن مصالحهم، فقام ناديهم بلعب دور النقابة الغائبة ولو بطريقة جزئية وغير صريحة. لقد قام «الزند» بدور النقيب غير الرسمى للقضاة لعدة سنوات بنجاح كبير، أما وقد أصبح وزيراً للعدل، فإنه لا يستطيع مواصلة القيام بنفس الدور، فقضية العدالة لا يمكن اختزالها فى مطالب القضاة، وليس كل ما يطالب به القضاة هو فى مصلحة العدالة بالضرورة، فلا توريث مهنة القضاء، ولا الاستثناء من قواعد الحد الأقصى للأجور -رغم اعتراضى عليها- هو من الأمور ذات الصلة بقضية العدالة، ولكنها مجرد مطالب فئوية يتمسك بها القضاة مثلما تتمسك أى فئة أخرى بمطالبها ومصالحها. ومثلما يرفع الأطباء شعارات صحة المرضى وحقوقهم لتبرير وشرعنة مطالبتهم بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل، يرفع القضاة شعارات هيبة القضاء واستقلاله دفاعاً عن مطالبهم، وقد يكون فى هذا بعض الحقيقة، ولكن فيه أيضاً الكثير من تسمية الأشياء بغير مسمياتها.
نريد وزيراً للعدل يسهر على شئون العدالة فى مصر، فتتأكد ثقة الناس فى القضاء، ولا نريد وزيراً أو نقيباً للقضاة يسهر على مصالحهم ومطالبهم إلا بقدر ما كان ذلك ضرورياً لتحصين جهاز العدالة وزيادة كفاءته.
حان وقت الحديث عن إصلاح القضاء، مثله فى ذلك مثل أى مؤسسة أخرى من مؤسسات الدولة، فآثار الثلاثين عاماً التى حكم فيها «مبارك» قد مست كل نواحى الحياة فى مصر، فلم ينج قطاع أو فئة أو مؤسسة من آثار حكمه المترهل، معدوم الرؤية، والفاسد. إنها مؤسسات الدولة الوطنية التى نتمسك بها وندافع عنها لأن بقاءنا مشروط ببقائها، والتى نتمسك بإصلاحها لأن تقدمنا وخروجنا من أزمات التنمية والفقر والتخلف وعدم المساواة مرهون بإصلاحها. فبقاؤنا كأمة ودولة ووطن مرهون ببقاء مؤسسات الدولة الوطنية، ولكننا نطمح لما هو أكثر من مجرد البقاء، فنحن نتطلع إلى الخروج من الفقر وإهدار الكرامة والاستبداد وعدم المساواة، والإصلاح هو طريقنا إلى ذلك. فهل نسمع من المستشار الزند رؤيته فى إصلاح القضاء ونظام العدالة، وهل له أن يقدم لنا هذه الرؤية بنفس الحماس والبلاغة والوضوح التى ميزت خطبه ضد حكم الإخوان؟