مات أبى -رحمة الله عليه- كمداً، فارقنا قبل أقل من عام، وهو من عاش آخر 3 سنوات من عمره ونحن منصرفون عنه، كلٌ إلى موبايله، لذا ظن حين أدخل خدمة الإنترنت إلى منزلنا البسيط فى الدرب الأحمر أنه سيجمعنا حوله، فإذا بنا وبأصدقائنا وجيراننا نجتمع حول «واى فايه»، نرابط فى بيتنا لنستمتع بخدمة إنترنت أفضل وأرخص، فهو من يحاسب على الفاتورة، ونحن من نستفيد، أتذكره حين ركن إلىَّ مستفهماً: أموت وأعرف بتعملوا إيه بالإنترنت، مش معقولة طول الوقت بتشتغلوا وتذاكروا عليه؟.. هنا شعرت بالذنب تجاه الأب الحنون الذى لم يألُ جهداً فى توفير السعادة لأبنائه، نحّيت ما أفعله جانباً لأشرح له سر انصرافنا عنه «يا بابا إحنا بنشيّت على الفيس بوك».. قلتها وياليتنى لم أفعل، فطيلة ساعة أو أكثر وأنا أشرح له ماهية الفيس بوك، ليس لعلة فى فهم الراحل، فقد كان ذكاؤه مثار إعجاب الجميع، قدر ما هو عجز فى إيجاد إجابة مناسبة لسؤاله: أيوه يعنى الفيس بوك ده بتستفيدوا منه إيه؟
حقيقة، لم أجد ما أرد به على سؤاله، وإلى الآن وأنا لا أجد استفادة حقيقية يمكن أن أخرج بها من وجود حساب لى على الفيس بوك، فضلاً عن حساب غير مفعل على تويتر، فما بدأ بغرض التواصل مع الأصدقاء ونشر الصور، تحول رويداً عن مساره، أسبوع تلو الآخر وجدت نفسى وقد أغلقت إمكانية مشاهدة الصور خوفاً من سرقتها والتلاعب بها، وأسبوع وراء الآخر قل التواصل مع الأصدقاء إلى حد البعد و«الجفا»، ربما لأنهم حقيقة ليسوا أصدقاء بالمعنى الذى تربى جيلنا عليه، وربما لأننى من أنصار التواصل «صوت وصورة»، ممن صرفوا رواتبهم على دقيقة المحمول وكروت الاتصال المنزلى فقط للاطمئنان على أصدقائهم.. لا أعلم، كل ما أعرفه وأدركه تماماً أن أبى مات دون أن أجيبه.
الغريب أن قناعتى هذه لم تنتصر فى يوم من الأيام، فما زال الحساب موجوداً ومفعلاً ولا يخلو من إسهامات بين الحين والآخر، والتقاطع مع الأصدقاء تعليقاً وإعجاباً ومشاركة، والأكثر غرابة أن قدرة خفية تجبرنى ليل نهار على تصفح الموقع من حين لآخر، وكأنه إدمان أو مخدر يسرى فى الدم، ظننتها فى البداية حالة خاصة بى وحدى، قبل أن ألحظها على غيرى، ساءت حالتهم وتحولت مواقع التواصل لديهم إلى متنفس، يعيشون عليه، إلى حد تبادلوا فيه الأدوار، فصارت هذه المواقع واقعهم الأصلى، وصار واقعنا عالمهم الافتراضى.
لم تكن المأساة لتتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزت ذلك بمراحل، بأن تحول الفيس بوك إلى محرك رئيسى فى الأحداث السياسية، فمنه تتواصل الحكومة بمختلف وزاراتها مع الشعب، وبسببه يقال وزير ويأتى آخر، وعليه تكثر البطولات والادعاءات، ولا سبيل إلى التكذيب، إلا من خلال معارك مصطنعة، لا يخرج متابعها بنتاج حقيقى، لا لشىء سوى أن «الفيس بوك» برمته ليس من الحقيقة فى شىء.
لذا، فإن المجد كل المجد لمواقع التواصل.. التواصل الذى كان اجتماعياً، فأصبح سياسياً، ثم دنا فتدنى ليتحول إلى «استهبالى»، ليعود أدراجه كمواقع «بتاعة كله»، تعبر عن رأيك فيها، و«تعلق» المزة منها، وترسم الفضيلة عليها، وتخوض من أجل اللايك والمشاركات معارك كانت وستظل «افتراضية» أيضاً.