هناك طائر غريب يحلق تائهاً، وحيداً، فى فضاء المشهد السياسى، يسمى «الناصريون»: إلى أى سلالة سياسية ينتمى، وماذا يريد بالضبط، ومع مَن يتحالف، ومن هم خصومه الحقيقيون، وبأى معيار يمكن أن ننسبه إلى جمال عبدالناصر؟.. الله ورسوله وحمدين وهيكل أعلم!. هل يجوز -أصلاً- أن يكون لعبدالناصر أشياع ومريدون، يتعبدون فيه ظالماً ومظلوماً.. أم مجرد محبين، يدافعون عن اسمه وتاريخه وانحيازاته، ولا يخشون فى نقده لومة لائم؟. وأى الخيارين أبقى وأكثر تأثيراً و«تكريماً» لعبدالناصر: أن يكون له حزب سياسى.. أم طريقة صوفية؟. باختصار: ما معنى أن يكون المرء ناصرياً؟.
يولد المصريون منذ 1952 وهم «ناصريون» بأكثر من معيار، ليس من بينها المعيار السياسى. يحبونه لأنه «كاريزما»، يعنى: «لله فى لله». يحبونه لأنه يحبهم، وكان يصل الليل بالنهار ليسعدهم ويعدل بينهم، ويوفر لهم حياة كريمة: «من أصغر طفلة بجدايل.. على زَرَع ودَرَس بتتمايل.. للفلاح أبو خير وجناين.. للواعظ حافظ القرآن.. للجندى الأسد اللى شايل على كتفه درع الأوطان». يحبونه لأنه رجل شجاع، جسور فى الدفاع عنهم، إن لم يكن بالفعل فبالخطاب الحماسى الملهب: «سنحارب إسرائيل ومن وراء إسرائيل». يحبونه لأنه «ملهم» حتى وهو مهزوم: «وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها.. جانا نهار ما يقدرش يدفع مهرها». يحبونه لمائة سبب، وما إن تدخل السياسة بينهم وبينه حتى يفسد الاثنان: عبدالناصر والذين يحبونه!.
تجمعنى بغالبية الناصريين الذين يعملون فى مهنة الصحافة صداقة ومودة، تتراوحان فى متانتهما بين «الكحرتة» على أرصفة المجانية.. والخشوع أمام «الأستاذ هيكل»، باعتباره «سقفاً مهنياً» وقبساً من رائحة الزعيم. كنت -حتى فاجعة 25 يناير- أعتز بصداقتنا، وأفتخر بأن لنا جذراً صلباً يجمعنا. كنت أعتقد أننا أبناء ستينات عبدالناصر لحماً ودماً: هى التى أدخلتنا مدارس وجامعات. هى التى ثقفتنا ومنحتنا مكانة اجتماعية ومهنية وسياسية. هى التى زرعت فى قلوبنا وعقولنا حب مصر والتباهى بريادتها. هى التى علمتنا أن لمصر أمناً قومياً وحدوداً «تاريخية» سحيقة. هى التى جعلتنا ندرك من صغرنا أن من يعادى مصر يعادى قرآنها وإنجيلها، وأن ثأرها لا يسقط بالتقادم ولا بالمواءمات والصفقات السياسية. فجأة انقلب الناصريون على كل ما تربينا عليه. أصبحوا جزءاً من الفساد الذى يناضلون ضده. أصبح فقراء عبدالناصر رقماً فى حساباتهم السرية. لم تعد كلمة «ناصرى» -حتى- هوية سياسية، بل «وظيفة»، ولم أعد فقط أخجل من كونى «ناصرياً».. بل أصبحت أكره ناصريين بقدر ما أحب عبدالناصر نفسه، وأصبحت أشعر أن من الناصريين من هم «عار» على عبدالناصر أكثر مما تمثل هزيمة 67!.
أعرف أن هذا المقال سيغضب كثيراً من الأصدقاء وزملاء المهنة ممن يسمون أنفسهم «ناصريين»، بل لا أخفى سراً أننى خسرت عدداً منهم بسبب مقال سابق، هاجمت فيه صنمهم السياسى حمدين صباحى بسبب تطاوله على السيسى أثناء انتخابات الرئاسة الأخيرة، وذهب أحدهم فى صفاقته وقلة أدبه إلى حد أنه عايرنى بالمرض ووصفنى بأننى «إضافة ثمينة» إلى طابور المطبلين للسيسى: السيسى، ابن المؤسسة التى قدمت لمصر وللعالم العربى نماذج للوطنية والشرف والانحياز للمواطن المصرى البسيط، أبرزهم جمال عبدالناصر. لم أغضب وقتها إلا لأن أخلاق بعض الناصريين قد بلغت من التدنى والانحطاط حداً جعلنى مع الأسف أخفف قليلاً من كراهيتى لـ«25 يناير»، كونها كشفت عن المعدن الحقيقى لكافة الناشطين فى الحياة السياسية، خاصة أولئك الذين يتخفون فى سيرة جمال عبدالناصر ويدافعون عنه!. لا أعرف كيف يصر الناصريون على «حلم الثورة» فى بلد أفلت بصعوبة من تبعات هذا الحلم فى دول مجاورة تحولت إلى شيع وقبائل وفرق موت؟. أى «ثورة» يمكن أن تنهض ببلد يحيط به الخراب والفوضى من الشرق والغرب والجنوب، وليس فيه من الموارد ولا الإرادة ما يكفى لينهض من فاجعة 25 يناير؟. ألا يرى هؤلاء الناصريون فيما أنجز عبدالناصر سوى «حلم الثورة» هذا؟. أليس فيهم عاقل يقول لهم إن «الدولة» فى هذا الظرف العصيب أهم وأسبق من وهم «الثورة»؟.
لا أعرف كيف يقول المرء إنه يحب عبدالناصر، ويجاهر فى الوقت نفسه بـ«تعاطفه» مع عصابة الإخوان، على الرغم من كره الإخوان الأصيل لهذا الزعيم ومحاولتهم الخسيسة لاغتياله فى 1954؟. لا أعرف ما سر التقارب بين الناصريين والإخوان، خاصة بعد 25 يناير، وكيف تجرأ بعضهم وجلس مع كوادر هذه العصابة، بل باركوا وصولها إلى الحكم، وجلسوا مع الخائن محمد مرسى، وفيهم من انتخبه رئيساً لمصر بحجة أن الخلاف معه سياسى، بينما خلافه مع منافسه أحمد شفيق جنائى؟. كيف ينحاز ناصرى إلى ما يسمى «شباب الثورة» وهو يعرف أن نزقهم وجهلهم وعداءهم لرئيس من المؤسسة العسكرية يمكن أن يكون عائقاً فى سبيل بناء الدولة واستعادة هيبتها؟. وكيف يعمل كاهن ناصرى مثل هيكل مع دويلة حقيرة مثل «قطر» وهو يعرف أكثر من غيره أنها ممول رئيسى لخطة تدمير الدولة المصرية قبل وبعد 25 يناير؟. هل لدى أى من الناصريين إجابة لهذه الأسئلة؟. هل لديهم الجرأة والموضوعية لإعادة النظر فى كونهم «ناصريين».. يحبون جمال عبدالناصر؟.. أشك!.