لا ينقطع الجدل الدائر فى شأن التسريبات، خاصة أننا لا نكاد نفرغ من تسريب حتى يظهر تسريب جديد. فى الأيام الأخيرة تلقيت أسئلة عديدة من زملاء صحفيين وإعلاميين فى شأن التسريبات ومدى مشروعيتها ومهنيتها، لكننى لاحظت أن أغلب من يطرح هذه الأسئلة لا يهدف من طرحها إلى الحصول على إجابة متكاملة توضح الاعتبارات الأخلاقية والمهنية التى تحكم عرض مثل تلك المواد عبر وسائل الإعلام، بقدر ما يريد الانتصار لرأى أو موقف.
بدايةً، فإن السؤال عن مشروعية إذاعة التسريبات من نوعية الأسئلة التى لا يمكن الإجابة عنها بـ«صح» أو «غلط»، لأن هناك تسريباً يمكن أن يكون مستوفياً شروط نشره وإذاعته المهنية والأخلاقية، وهناك ما هو عكس ذلك.
لكن معظمنا -للأسف الشديد- ينظر إلى تلك القضية من منظور سياسى، بمعنى أنه قد يؤيد عرض تلك التسريبات إذا كانت تعزز موقفه وتنال من خصومه وأعدائه، ويدينها بشدة ويعتبرها جريمة ومخالفة إذا كانت تضر بمواقفه أو حلفائه أو من يؤيدهم. ثمة عدد من القضايا التى انشغل بها العالم أخيراً بخصوص تسريبات معينة، ومن المفيد أن نشير إليها حتى يمكننا أن نفهم أبعاد مثل تلك القضية.
يأتى موقع «ويكيليكس» على رأس الحالات التى يمكن أن تكون ملهمة فى هذا الصدد، كما إن تسريبات إدوارد سنودن، عميل وكالة الأمن القومى الأمريكية، أيضاً كانت فارقة ومؤثرة؛ إذ كشف هذا الفتى عن تنصت أجهزة أمريكية على سياسيين ومواطنين من دول عديدة.
هناك أيضاً قضية تسريب بعض المكالمات الهاتفية المنسوبة إلى الرئيس التركى أردوغان وبعض أركان حكمه وأعضاء أسرته، وهى التسريبات التى سببت حرجاً بالغاً لهذا الأخير، وكشفت عن بعض قضايا الفساد وإساءة استخدام السلطة.
وأخيراً، فإن وزارة الخارجية الأمريكية قررت نشر عدد كبير من الرسائل الإلكترونية التى تبادلتها وزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون، فى العام 2012، لأنها استخدمت بريدها الإلكترونى الخاص فى تبادل تلك الرسائل، ومعظمها يخص الشأن العام، وبعضها يتعلق بمسائل خاصة؛ مثل خياراتها المفضلة فى الاستماع إلى الإذاعة، أو حواراتها مع أصدقاء فى شأن مشاكل تخصهم. تقع قضية التسريبات بين عدد من الاعتبارات القانونية والأخلاقية والمهنية على النحو التالى:
أولاً: هناك مبدأ حرمة الحياة الخاصة، وصيانة الحق فى الخصوصية، وهو حق مكفول وملزم ومنصوص عليه فى كل المواثيق والعهود الدولية والدساتير ومنها الدستور المصرى. وفى هذا الصدد، فإن القانون يجرم تسجيل المكالمات الخاصة من دون إذن قضائى، ويجرم أيضاً نشرها.
ثانياً: تفيد تسريبات «ويكيليكس» وسنودن وأردوغان وإذاعة «إيميلات» كلينتون أن حق حماية الخصوصية لا يصمد أمام تقاطعه مع المصلحة العامة؛ وعلى رأسها بالطبع الكشف عن الفساد أو الجرائم أو إساءة استخدام السلطة.
ثالثاً: من حق الصحافة أن تنشر الأنباء والمواد التى تحصل عليها، بشرط أن تقع فى إطار اهتمامات الجمهور، وأن تتعلق بمصلحة عامة واضحة، وأن يكون النشر هو الوسيلة الوحيدة الباقية لإثارة القضية، من أجل تصحيح الأوضاع التى نجمت عن المخالفات التى تكشفها التسريبات.
رابعاً: هناك عدد من الاعتبارات التى يجب مراعتها فى حال توافرت شروط نشر التسريبات؛ منها أن يكون الجزء المذاع كاشفاً عن حقيقة يجهلها الجمهور، وهى بدورها قادرة على أن تقود إلى تحسين فهم الجمهور للوقائع والأحداث.
ومن تلك الاعتبارات أيضاً ضرورة عدم نزع تسريب معين من سياقه، أو تأويله على نحو غير ملائم لإثبات استنتاج افتراضى، فضلاً عن ضرورة أن يتم حذف أى إفادات تتعلق بالحياة الخاصة لأطراف تلك التسريبات ولا تمت بصلة للشأن العام.
سيكون من الضرورى أيضاً إتاحة الفرصة لأطراف تلك التسريبات لشرح مواقفها حيالها أو نفيها، على أن تتم الإشارة إلى تلك المواقف حال الإذاعة أو النشر.
وببساطة شديدة، فإن اقتران عرض تلك التسريبات بشرح تأويلى، وتفسير استنتاجى، بغرض تشويه الأشخاص المعنيين أو اغتيالهم معنوياً، سيكون إشارة واضحة إلى أن الغرض من الإذاعة لم يكن المصلحة العامة، إنما كان بغرض تلطيخ السمعة والإضرار بالأطراف. إن أى تسريب لا يقود إلى فتح تحقيق أو محاكمة أو يوفر الأسباب الموضوعية لذلك، أو يستهدف التأثير فى مسار محاكمة جارية، لا يتوافق مع الاعتبارات المهنية والأخلاقية.
لا يمكننا أن نغل يد المسربين على الإطلاق، وإلا ما عرفنا شيئاً عن سجن «أبوغريب»، أو تنصت الإدارة الأمريكية، أو فضائح أردوغان، أو مخالفة كلينتون للقوانين واللوائح.
ولا يمكننا أن نوافق على عرض كل تسريب، وإلا ارتكبنا جريمة بالمعايير القانونية والأخلاقية والمهنية.
وحتى تتمكن من الحكم على مشروعية أى تسريب، اسأل نفسك هذا السؤال: «هل أراد مذيع التسريب كشف حقيقة تتعلق بالمصلحة العامة، أم أراد تحقيق غرض سياسى، بتشويه سمعة البعض، واغتيالهم معنوياً، وحصد مشاهدات وبيع نسخ إضافية؟».
هناك مسألة أخرى غاية فى الأهمية، فمن سجّل خارج إطار القانون، وسرّب ما تم تسجيله، مجرم تجب محاسبته.