ضمتنا الأسبوع الماضى فى العاصمة الأردنية عمان مائدة مستديرة التأم حولها خمسة عشر خبيراً وباحثاً عربياً وأفريقياً، دعا إليها «منتدى الدراسات المستقبلية لأفريقيا والشرق الأوسط». كان عنوان اللقاء مختصراً وموحياً «أفريقيا واحدة». كان دورى أن أقدم قراءة نقدية وتحليلية «لأجندة أفريقيا 2063» الرؤية المستقبلية التى صدرت عن المعهد الأفريقى للدراسات المستقبلية بالكونغو الديمقراطية، بمناسبة الاحتفال بالعيد الخمسينى على قيام منظمة الوحدة الأفريقية فى مايو 1963، وترسم صورة لأفريقيا التى يريدها الأفريقيون بعد خمسين عاماً.
تقول الرؤية المستقبلية لأفريقيا 2063 «إن أصواتنا المتحدة ترسم صورة لما نريده لأنفسنا ولأجيالنا المستقبلية وللقارة»، وأفريقيا مصممة على أن تتوحد من أجل تحقيق نهضتها، والأجيال الحاضرة من الأفارقة على ثقة بأن مصير أفريقيا بأيديهم، ويجب أن تعمل هذه الأجيال من الآن لتشكيل المستقبل الذى تريده، وأفريقيا تستجمع إرادتها أيضاً لمحو الفقر فى جيل واحد بحلول عام 2025 وبناء الرخاء المشترك من خلال تحولات اقتصادية واجتماعية جذرية بالقارة، تعززها جهود الاستثمار فى بناء القدرات الإنتاجية والمهارات والأصول وتحسين الدخول وخلق الوظائف، وبحلول 2025 أيضاً سينتهى الجوع والعوز، وتنخفض واردات الغذاء وترتفع التجارة الأفريقية البينية فى الزراعة والغذاء إلى 50 بالمائة من التجارة الرسمية، وأفريقيا بسبيلها إلى أن تصبح «سلة غذاء» للعرب والأفريقيين، وهناك الآن ملايين الهكتارات حول البحيرات العظمى وفى إثيوبيا يزرعها المستثمرون العرب فى نموذج رائع للتعاون الإقليمى بين رأس المال العربى والموارد الطبيعية الأفريقية. وبحلول 2063 سوف تكون أفريقيا من بين أكثر المناطق أداءً بالمقاييس العالمية لنوعية الحياة، وسوف يكون الناتج المحلى الإجمالى لأفريقيا متناسباً مع حصتها من عدد السكان العالمى، ومع ما تملكه من وفرة وتنوع فى الموارد الطبيعية، بدلاً من القاعدة الراهنة «أفريقيا غنية والأفريقيون فقراء»، ففى 2025 سوف يكون لدى أفريقيا قطاع زراعى حديث مربح وجذاب يحل محل زراعة الاكتفاء الذاتى التى ظلت الطابع السائد فى معظم أنحاء القارة، وسوف يكون «للاقتصاد الأزرق» حصة الأسد فى قيادة النمو والتحولات القارية، «والاقتصاد الأزرق» الأفريقى سوف يجعل أفريقيا أكبر مصدر لتجارة المياه الافتراضية فى العالم، ويشمل الاقتصاد الأزرق أيضاً صناعة السفن وتنمية ثروات البحار والأنهار والبحيرات والصيد والنقل المائى والطاقة المائية واستغلال المعادن فى أعماق البحار، وما يهمنا فى هذا السياق تأكيد الرؤية الأفريقية على الاستخدام المنصف والمستدام فى إدارة موارد المياه لتحقيق التنمية وبناء التعاون الإقليمى، فالقارة غنية بمواردها المائية وأنهارها الكبرى كالنيل والكونغو وبحيراتها العظمى، وتستطيع بالإدارة المنصفة والتعاون الإقليمى التغلب على كل صور النزاع حول مياه الأنهار بين الدول المتشاطئة، وربما تكون مصر قد خطت -باتفاق الخرطوم الإطارى حول سد النهضة- خطوات مهمة نحو الوصول إلى اتفاق مُرضٍ لاقتسام مياه النيل مع إثيوبيا ودول حوض النيل، والانتصار لفكرة التعاون بديلاً عن مظاهر الصراع المعلن والمكتوم، وطبقاً لرؤية أفريقيا 2063 فإن الصراع سوف يكون من ذكريات الماضى الأفريقى البغيض، وبحلول 2020 -تقرر الرؤية- سوف تسكت المدافع وتضع الحروب الأهلية أوزارها، وسوف تكون القارة خالية من النزاعات المسلحة والإرهاب والتطرف والكراهية والعنف الموجه ضد المرأة والإبادة الجماعية كتهديدات رئيسية للأمن الإنسانى والسلام والتنمية، والتنوع العرقى والثقافى والدينى الذى كان سبباً للصراعات والحروب الأهلية فى أفريقيا سوف يكون -بالإدارة الديمقراطية لهذا التنوع- مصدر التجانس والتحولات الاقتصادية والاجتماعية، سوف تكون وحدة أفريقيا فى تنوعها، وبدلاً من التجزئة والتشرذم سوف تقوم بحلول 2030 حكومة قارية واحدة تعاونها مؤسسات فوق قومية، ولمراقبة التقدم فى مجال بناء السلم الأهلى تقترح الرؤية بناء «مؤشر للأمن الإنسانى الأفريقى African Human Security Index (AHSI)، وفى سياق متصل، تتوقع الرؤية أن تختفى المستعمرات الكولونيالية المتبقية من عصر الاستعمار الاستيطانى، ورغم أنها قليلة فإن بقاءها حتى الآن بمثابة وصمة عار تلطخ التاريخ الوطنى لأفريقيا، ففى 2020 سوف تتحرر كل الأراضى التى لا تزال واقعة تحت الاحتلال فى أرخبيل شاجوس وجزيرة مايوت القُمرية، وهى أيضاً جزء من أراضى دولة عربية أفريقية هى جزر القمر.
لقد صدرت الطبعة الثانية من أجندة أفريقيا 2063 فى أغسطس 2014 وهى الطبعة محل قراءتنا التحليلية، أى صدرت والمواجهة الأفريقية مع الإرهاب فى ذروتها، حيث تخوض القارة «حرب تحريرها الثانية» ضد الإرهاب بعد أن كسبت حرب التحرير الأولى ضد الاستعمار، يكاد الإرهاب يطوق القارة عن طريق قوسين كبيرين، قوس فى الشمال يبدأ من سيناء وأنصار بيت المقدس وجماعة الإخوان فى مصر مروراً بفجر ليبيا والدواعش إلى التكفيرية الجهادية فى تونس والجزائر والجماعات الإرهابية فى شمال مالى والنيجر، وقوس فى الجنوب يبدأ من الصومال وشباب محمد والقاعدة فى كينيا مروراً بالجماعة الإرهابية الأم «بوكو حرام» فى نيجيريا وفروعها فى تشاد وأفريقيا الوسطى وغيرهما، ورغم هذا الانتشار السرطانى لجماعات الإرهاب ومنظماته فى أفريقيا، فإن الرؤية مرت على الظاهرة مرور الكرام، وباستثناء كلمة شاردة عن الإرهاب، سكتت الرؤية عن أخطاره وتهديداته لمستقبل الدولة الوطنية الأفريقية التى ولدت مع الاستقلال ولم تستكمل بعد مهامها الوطنية فى تحقيق التنمية وبناء الديمقراطية والتكامل، وظهور الإرهاب على هذا النحو السرطانى تحدٍ يعطل الحركة على طريق الوصول إلى غاية الرؤية فى بناء قارة متكاملة وموحدة وشريك قارى فاعل ومؤثر فى النظام العالمى.
وتختتم الرؤية باستثارة همم الأفريقيين للاستمرار فى جهود إصلاح الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى، وتصحيح الظلم التاريخى الذى حاق بأفريقيا باعتبارها الإقليم الوحيد الذى ليس له «مقعد دائم» فى مجلس الأمن، المهم أن تتوافق القوى الإقليمية الكبرى فى أفريقيا على الدولة التى تمثلها فى المقعد الأفريقى الدائم لمجلس الأمن، وعلى المعايير التى ينبغى استيفاؤها فى الدولة المختارة، بدلاً من أن يخضع الاختيار للدس والوقيعة بين دول رسمت لنفسها خارطة طريق نحو المستقبل.