أعتقد أنه لو عرفت الأطراف المختلفة لأزمة الدستور المعنى الحقيقى للدستور وأولويات مصر فى هذه المرحلة والمخاطر التى تحيط بنا، لما أراد البعض منهم قلب الطاولة على الجميع أو اعتقد البعض الآخر أن كتابة الدستور هى نهاية التاريخ؛ فإما الشريعة وإما اللاشريعة.
وضع الدستور عملية سياسية توافقية فى الأساس، وليست عملية قانونية أو فقهية صرفة يتعارك الناس فيها على نصوص مختلفة، ويتبارى الجميع فى تقديم المقترحات والإصرار على وضعها بالدستور. والتوافق يعنى أن يسأل كل طرف نفسه عمَّا تنازل عنه للآخر وليس عمَّا أخذه من الآخر.
والدستور ليس مجالاً لحسم جميع الإشكاليات التى تثيرها مسألة الهُوية؛ لأن الدستور ليس وثيقة مقدسة وإنما تعاقد مجتمعى متجدد يجب تعديله متى تطلب الأمر. وما يهمنا الآن هو النظام الديمقراطى الحقيقى بمؤسساته وضماناته المتعارف عليها والكفيلة بحفظ حريات الناس وحقوقهم، ومنع عودة الاستبداد، وتوفير المجال السياسى الصحى الذى يُمكّن الفاعلين السياسيين من التنافس الحقيقى لخدمة الناس، ومن حسم بقية الإشكاليات فى جو من الحرية.
لا يمكن لعاقل تصوُّر أنه يمكن فى بضعة شهور حسم كل الإشكاليات المتعلقة بالشريعة، والإجابة عن عشرات الأسئلة المصاحبة لها، التى يجب حسمها فكريا أولاً داخل التيارات السلفية والإسلامية وغيرها. يجب الاكتفاء الآن بالحد الأدنى المتفق عليه مؤخراً (المادة الثانية والمادة المفسرة لها) وما جاء فى وثيقة الأزهر. أما طرح كل شىء على الطاولة الآن فلن يؤدى إلا إلى استقطاب حاد ومعارك سياسية حول الهوية، يقول لنا التاريخ إنها أسوأ أنواع المعارك.
كان الأولى أن يهتم ويتدبر الجميع فى اختيار وابتداع أنسب الوسائل فى تحقيق أربع أولويات: (1) الأساس الأول لأى نظام ديمقراطى، أى: حكم القانون وتقيّد الجميع بالدستور والقانون وآليات فك عُرى الاستبداد ووضع الضمانات الكفيلة بعدم عودته على جميع المستويات القانونية والسياسية والثقافية والتربوية والإعلامية وخضوع جميع المؤسسات غير المنتخبة (الدينية والأمنية والعسكرية) للمؤسسات المنتخبة. (2) دعم تقارب الأطراف المختلفة داخل جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وبناء رابطة وطنية قوية بين جميع الفئات، ووضع ضمانات ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب والنقابات والجمعيات والجامعات. (3) إعادة الثقة فى السياسة والسياسيين وترسيخ المعانى الإيجابية لمفهوم السياسة فى اللغة والحضارة العربية والإسلامية ووضع خطة وطنية شاملة للتنمية السياسية فكريا ومؤسسيا. (4) وضع جميع الضمانات لوقف التبعية للخارج ولوضع سياسة خارجية مستقلة تحافظ على الأمن القومى المصرى وتسمح لحكومات مصر باستعادة دورها الرائد فى المنطقة والعالم.
نعم، هناك مشكلات فى تشكيل الجمعية التأسيسية؛ فالدستور وثيقة تهتم أساساً بهيكل الدولة وأسس نظامها السياسى؛ لهذا كان لزاماً تمثيل علماء السياسة وفقهاء القانون الدستورى والمتخصصين فى بناء المؤسسات والنظم السياسية والتحول الديمقراطى والإدارة العامة بشكل أكبر بالجمعية. وكان يجب تجنب التمثيل الحزبى فيها حتى تطمئن قلوب الجميع، لكننا الآن، ونحن فى نهاية مدة الجمعية، أمامنا طريقان: إما الحكم على المنتج النهائى للجمعية، ثم التصرف بعد ذلك بما يتناسب معه ومع أوضاع البلاد.. وإما تقديم بديل آخر للأمر كله بشرط حصوله على أكبر قدر من التوافق.