يعرض الفيلسوف زكى نجيب محمود فلسفة شوبنهور فى إرادة الحياة وخلاصتها أن «الحياة تستعين بالأفراد على بقائها، فهى لا تعنى بالفرد ما دامت تحقق البقاء فى الأفراد الآخرين»، وفيما يلى حوار من فصل كتبه شوبنهور:
أما أحدهما فكان يحب الحياة ويخشى الموت، وأما الآخر ففيلسوف يستصغر شأنها وينفذ ببصره وراء ظواهرها الزائلة إلى حيث الحقيقة الخالدة، جمعت بينهما الأيام على مائدة واحدة فدار بينهما الحديث وتشعّبت أطرافه، وما لبث الحوار بينهما طويلاً حتى مسّ موضع التناقض بينهما.
- تراسيماكوس: لله ما أعجب الموت لا يكاد يمس الحى بأطرافه الباردة، حتى تنقلب تلك القوة المفكرة المدبرة الفعالة إلى جمود الصخر، يلقى بها فى جوف القبر الصامت وكأنها بعض تربته، أفتستطيع يا صديقى أن تحدثنى حديثاً جلياً واضحاً لا يغمض ولا يلتوى عن قصة هذا الموت العجيب؟ ماذا عساى أن أكون بعد هذا القضاء المحتوم؟
- فيلاليثس: ستكون كل شىء، ولن تكون شيئاً.
- تراسيماكوس: لم أكن والله أتوقع منك حين طرحت السؤال إلا عبارة كهذه مبهمة مرنة، أسرفت فى المرونة والإبهام حتى وسعت كل معنى، فلم أظفر مما أريد بشىء، وماذا عسى أن أفيد من جواب يتنافر الصدر فيه مع العجز، ويتناقض شطره الأول مع شطره الثانى، فيزيد المشكلة تعقيداً على تعقيد ولا يوضح منها شيئاً؟ ولكنها الفلسفة العميقة تأبى إلا أن تعلو بنفسها فوق مستوى الأفهام فتربك العبارة إرباكاً وتغلقها إغلاقاً، كأنما أريد لها أن تقتصر على قائليها، وكان خليقاً بها إن أرادت أن تمكن لنفسها من العقول، أن تلتمس سبيلاً طيعاً ذلولاً، لا وعراً ولا شائكاً، فيروده الرائدون جميعاً.
- فيلاليثس: عفواً صديقى فما قصدت إلى التناقض عمداً بل اضطررت إليه اضطراراً، فهذه اللغة التى تواضع الناس على اصطناعها فى التفاهم لم تنشأ أول أمرها إلا لكى تكون أداة للتعبير عما يقع تحت الحس من أشياء، فلما درج الإنسان صاعداً فى سلم الرقى، وبدأت تدور فى رأسه خلجات من الفكر المجرد ثم أراد أن يبرزها فى ثوب اللفظ، لم تسعفه إلا هذه اللغة التى إنما خُلقت للمحسوسات، والتزم أن يُجرى فى قوالبها المحدودة تلك الآراء المطلقة التى لا تعرف الحدود، فلم يكن بد من هذا التناقض والاضطراب، فأنا إن فكرت فى مصيرك بعد الموت، فلست أعنى بجسدك وما يطرأ عليه، بل يسبح الفكر فى حقيقتك التى تكمن وراء هذا الستار من اللحم والعظم فى جوهرك مجرداً عن قوالب المادة، وما أضيق اللغة عن هذا النطاق الفسيح.
- تراسيماكوس: ويحك! أوتريد أن تجعل منى رجلين، فرجل من مادة فى إهاب من الجلد، ورجل مجرد خبىء وراء الأستار تراه أنت من دون صاحبه؟
- فيلاليثس: وأى غرابة فيما أزعم يا صديقى؟ أفتظن أن هذه الأجسام والأجساد التى تنبث فى أنحاء الكون والتى تدركها بوساطة الحواس هى كل شىء؟ اللهم إن صحّ هذا لكان الإنسان كتلة من اللحم والشحم والعظام، وقل على أفكاره ومشاعره وشتى مظاهر حيويته العفاء، لأنها لا تسلك إليك سبيلاً من عين أو أنف أو أذن!! لا لكل شىء حقيقة كامنة وراء ظاهره، ما فى ذلك من شك ولا ريب، فإن أدركك الموت يا أخى أفنى منك هذا الفرد الذى يحاورنى الآن، هذا الشخص المعين الذى أراه وأسمعه، ماذا أقول: هذا التراسيماكوس، فلن يكون بعد الموت شيئاً مذكوراً، ستنحل مادته وستسلك ذراتها سبلاً شتى، فطائفة إلى شجرة تدخل فى تركيبها، وطائفة إلى حيوان، وثالثة إلى صخرة تلقى فى طاق الكوخ لتصد عن ساكنيه الهواء كما يقول شكسبير، ولكن ليست هذه الشخصية إلا ظاهرة فانية مع الموت، ولها بطانة باقية إلى الأبد، ليست إلا قالباً صيغت فيه حقيقتك الخالدة، فالفرد منك ظاهرة مادية عارضة محصورة فى أطواق الزمان والمكان، فلها بدء وخاتمة، وهى تشغل حيزاً من الفراغ، فأما سرك وجوهرك، أما الحقيقة التى اندسّت فى مادتك فلا تعرفُ زماناً ولا مكاناً، فهى فى الكون منذ الأزل، أرادت أن تثبت وجود نفسها، فتجسدت فى الكائنات التى ترى، فهى لا تختلف فى شخصك عنها فى شخصى، أو فى شخص هذا الطائر الذى تراه يخفق بين أطباق الهواء. . فإن أدركتك المنية سيفنى منك الفرد، وستخلد الحقيقة ممثلة فى سائر الأحياء، لعلك الآن قد آمنت بما زعمته لك من أنك لن تكون بعد الموت شيئاً، وستكون كل شىء؟
وداعاً سيادة النائب العام المستشار هشام بركات.