لم يكن حديثى مع السيد «الصادق المهدى» حول المشهد الراهن فى السودان.. من واقعه السيئ أو احتمالاته الأسوأ، ولا عن تجربته فى الحكم أو تجارب الآخرين.. بل كان عن أفكار نظرية بشأن الثورة والدولة، وبشأن ما جرى فى عصور الثورة فى العالم العربى.
سألت «الصادق المهدى» عن الثورة والبناء.. قال: الثورة أكثر فعالية فى الهدم، وذلك لأن البناء يحتاج دائماً لدرجة كبيرة من التخطيط والتريث. تأتى ظروف معينة تحتاج إلى الهدم وتحتاج إلى المقاومة، وتحتاج إلى «ذهنية التجديد».
فى هذه المسائل الثلاث.. الثورة مطلوبة، مثل العملية الجراحية المطلوبة، لكنه من الضرورى جداً أن تنتقل الذهنية من «الهدم» وما يصحبه من عنف إلى «البناء» وما يصحبه من استيعاب ومشاركة.
وأنا أعتقد أن هناك عملية تضاد، ما بين الثورة وما بين بناء الدولة، وهذا التضاد إذا كانت قيادة الثورة واعية بالقدر الكافى، تستطيع أن تتجاوزه.
وأنا دائماً أذكر ذلك البيت الشعرى المعبر:
تدبيرٌ ذو حِنكٍ يفكرُ فى غدٍ وهجومُ غِرٍ لا يخافُ عواقبه
فالثورة دائماً تحتاج إلى هذه الذهنية.. هجوم غر لا يخاف عواقبه، أى أن هناك فعلاً مطلوباً إنجازه ضد عوامل كثيرة، لكنْ تدبيرٌ ذو حنك.. هذا هو المطلوب لبناء الدولة.
سألت السيد «الصادق المهدى»: كيف يمكن قراءة هذا الرأى فيما جرى من وقائع الثورة المهدية.. وأنت تحمل شرعيتها وامتدادها.. قال: إن الثورة المهدية فى السودان قد جاءت على مطالب سابقة، كانت هناك مطالب خاصة بتجديد الفكر الدينى فى السودان، لأنه كان قد ركن إلى درجة راكدة من الفهم الصوفى الغيبى، وهذا الفهم قد علَّب الإرادة الدينية فى السودان فى أبنية اجتماعية تتعايش مع الواقع كما هو.
كان هناك داعٍ كبير لتجديد الفكر الدينى بصورة ثورية، وكان هناك أيضاً نظام اجتماعى متعفن، وكانت توجد سيطرة استعمارية. هذه العوامل الثلاثة كانت مبرراً كافياً لحركة ثورية تجدد الفكر الدينى، وتضع حداً للتعفن الاجتماعى وتحرر البلاد.
قلت: إذا كانت هذه هى ظروف الثورة.. فما ظروف الدولة؟.. قال «المهدى»: الفكرة المهدية فى السودان لم تكن فكرة قُطرية.. لذلك لم يفكر «المهدى» أصلاً فى بناء الدولة، بل كان يفكر بمنطق «الثورة المستمرة» حتى يتحرر العالم الإسلامى، ولذلك لم يضع المهدى فى حسبانه أصلاً فكرة الانتقال من الثورة إلى الدولة، بل كان تفكيره.. كيف ينقل التجربة الثورية فى السودان إلى مصر، ثم إلى بقية أنحاء العالم العربى، مشرقاً ومغرباً.. ثم إلى ما وراء العالم العربى فى العالم الإسلامى، ولكن وفاة «المهدى» المبكرة، حالت دون هذه الثورة المستمرة، فآل مشروع بناء الدولة إلى خليفة «المهدى»، بعد أن جاءت عوامل بعد وفاته حالت دون ذلك.
■ ■ ■
استطرد «الصادق المهدى».. منتقلاً من الثورة المصرية إلى عموم الثورات.. وكيف تتأتى المشكلة من اختلاف ذهنية الثورة وذهنية الدولة.
يقول «المهدى»: كل ثورة -حتى تلك التى توافرت لها مبررات كافية- تحتاج لأن تنقل نفسها من الذهنية الثورية إلى البناء، وهذه عملية صعبة جداً، ربما يستحيل أن تتحقق فى نفس القيادة، لأن كثيرين جداً من القيادات الصالحة للعمل الثورى، ربما لا تكون صالحة لعمل الدولة.. أى الإسهام فى بنائها.
لذلك كانت معظم الثورات مخيبة للآمال، بل فى كثير من الأحيان.. الثورات مع كل ما تقدمه من مبررات تترك الوطن وهو أسوأ حالاً مما أرادت الثورة عمله!..
هذه قراءة تاريخية مطلوبة، لكن لا شك أن هناك حقائق سوسيولوجية، حقيقة أن الثورة مختلفة عن الدولة، وحقيقة أن ذهنية الثورة مختلفة عن ذهنية بناء الدولة، وحقيقة أن الكادر الثورى قلما يكون مؤهلاً لبناء البديل الذى يريد أن يطرحه، وعلى ذلك غالباً ما تكون نتائج الثورات مخيبة للآمال!
وأعتقد أنه إذا توافر هامش الحرية للتغيير المتدرج، فهو أفضل من المغامرة الثورية التى تصبح مبررة فقط عندما يغيب هامش الحرية والتغيير المتدرج.
■ ■ ■
قلت لـ«الصادق المهدى»: لكن رجال الثورة أنفسهم إذا أعادوا النظر، وأدركوا أن ذهنية البناء تختلف عن ذهنية الهدم، وأن ظروف الثورة تختلف عن شروط الدولة، ثم قرروا المواءمة وتعديل أفكارهم وبرامجهم للتكيف مع هذه الحقائق المستجدة، سوف يجدون أنفسهم وقد خسروا شرعية وجودهم، لأنهم أصبحوا يعملون بموجب فكر وخطاب سياسى وبرامج تختلف عما بدأوا به، وعما التف الناس حولهم لأجله.. وبالطبع فإن نصيبهم سيكون الاتهام بالخيانة، أو الرجعية، أو الارتداد عن مبادئ الثورة أو الثورة المضادة وما إلى ذلك.. ما الحل فى هذه الإشكالية.. معضلة أن تصحح فتفقد الشرعية أو أن تبقى فتفقد الصواب؟!
يذهب «الصادق المهدى» هنا إلى التسليم بأنها معضلة.. فالقضايا الإنسانية مثل هذه، لا توجد قوانين حاسمة لها، يعنى إذا أخذنا مثلاً أهم ثورتين أوروبيتين: الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية.. كلتاهما كانت ثورة مجيدة بالمقاييس الإنسانية، لكن النتائج التى أسفرت عنهما جاءت مخيبة للآمال!
وهذا لا يعنى أن الإنسان يتمنى لو أن الثورتين لم تكونا قد وقعتا، ولكن الإنسان يقول.. على صعيد الفكر السياسى.. يجب أن نفهم هذه المفارقات، وكيف تعمل كل ثورة على أن تخط طريقها وحدها.. فى تجربة خاصة بها.
فى السودان -عندنا- لدينا معضلة، فكثير من الثورات التى أطلقت على نفسها ثورات هى انقلابات، ولا بد من التمييز بين الثورة الحقيقية وبين ما هو فى الحقيقة انقلاب. وفى رأيى.. أن كل تغيير يعتمد على القوات المسلحة اعتماداً كلياً بحيث تنتقل السلطة من عسكرية إلى سياسية مباشرة، هذا انقلاب. أنت أصلاً لديك سلطة عسكرية، إذا تحولت إلى سلطة سياسية هذا انقلاب.
لكن إذا كان التغيير قد اشترك فيه الجيش، ولكنه كان معتمداً على قوى مدنية، ومتأثراً بعوامل متجذرة فى المجتمع، وليس فقط أن يصبح أصحاب السلطة العسكرية أصحاب السلطة السياسية، نصبح إزاء ثورة.
الجزء الرابع.. الأسبوع المقبل بمشيئة الله
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.