لم يتوهم أحد أن تمر الذكرى الثانية للثلاثين من يونيو بسلام، فلا تملك الجماعة الإرهابية ترف الانسحاب من المشهد السياسى فى مصر وترك نحو قرن من تاريخها يلفه النسيان، ولا يوجد أفضل من ذلك اليوم الذى مهد لإسقاط حكم تلك الجماعة لتثبت فيه أنها ما زالت قادرة على إثارة الجدل، وأيضاً على إسالة الدماء، لذلك نلاحظ أن الأسابيع القليلة الماضية ازدحمت بالعديد من الشائعات عن مبادرات من أطراف إخوانية مصرية وعربية لما يسمى بالمصالحة السياسية، كما تكررت فى الوقت نفسه التهديدات بجعل الذكرى الثانية للثلاثين من يونيو دموية بامتياز، وهذا يعنى أن المفاجأة فى اغتيال النائب العام تنبع من القيمة الرمزية التى يمثلها الراحل الكبير، ومن حجم الدمار الذى خلفه هذا العمل الجبان وليس من أن الاغتيال أفسد الاحتفال باليوم وذكراه. وتقودنا هذه النقطة لمناقشة علاقة الجماعة بتدبير الاغتيال، وعلى المستوى الشخصى لا يداخلنى شك فى أن الجماعة الإرهابية ضالعة فيه بالتحريض عليه، وعلى ممارسة العنف بشكل عام، لكنى لست متأكدة من أن الجماعة هى الأداة المنفذة فى انتظار أن تقول التحقيقات كلمتها فى هذا الشأن. هى محرضة لأن من يشاهد القنوات التى يتحدث فيها المحسوبون على الجماعة الإرهابية يلمس تحريضاً منظماً ومتواتراً ضد كل مؤيدى الثلاثين من يونيو، وإعلاناً صريحاً عن «انتهاء السلمية» على أساس أن كل إرهاب العامين الماضيين كأن لم يكن، كما أن تلك الجماعة تدعم ما أطلق عليه نداء الكنانة الصادر فى مايو الماضى، والذى يحدد فى نقطته الرابعة المستهدفين بالقتال فى كل من الحكام والقضاة والضباط والجنود والمفتين والإعلاميين والسياسيين، أى أنه يجعل استهداف القضاة تالياً على استهداف الحكام مباشرة، وبالتالى فإن صلة الجماعة باغتيال النائب العام واضحة، لكن فى الوقت نفسه فإن الدرجة العالية من الإحكام التى جاء عليها تنفيذ هذا العمل الجبان تشكك فى أن الجماعة هى منفذته، وقد أرجع القيادى الإسلامى الرصين ناجح إبراهيم التنفيذ إلى جماعة «أجناد مصر» التى سمعنا بها منذ عام ٢٠١٣ والتى توجد بينها وبين الإخوان نقاط اختلاف تكتيكية، وربما تورطت عناصر خارجية فى التدبير والتنفيذ، فالجريمة تذكر فى إتقانها بتفجير موكب رفيق الحريرى فى عام ٢٠٠٥، وشتان بين هذا التفجير وبين تلك التفجيرات التى وقعت فى ٦ أكتوبر وحلوان وأودت بحياة منفذيها جزاء سماوياً رادعاً على ما كانوا يدبرون. بطبيعة الحال لم تتورع الجماعة عن التهليل لاغتيال النائب العام، بل وتركت تعليقات بعض أعضائها، أمثال أحمد المغير، الانطباع بأنها هى منفذته عندما توعد النائب العام الجديد بسيارة أخرى مفخخة، لكن ما وجه الغرابة فى الأمر؟ عودنا الإخوان على أن يقطفوا ثمار عمل الآخرين حتى لو كانت تلك الثمار مخضبة بالدماء، فالمهم هو إيصال الرسالة بأنهم قادرون على الوصول لكل أحد.
فور وقوع الجريمة الغادرة، انبرى كثير من المحللين إلى تفسيرها بتفسيرات من نوع غياب العدالة الاجتماعية أو تعثر الديمقراطية أو دوامة العنف والعنف المضاد، ومن المفهوم أنه لا يمكن المحاججة فى أهمية التوزيع العادل للثروات وتفعيل المشاركة السياسية وسيادة القانون، لكن تحميلها مسئولية اغتيال النائب العام لا يستقيم، لأن الجماعات الإرهابية لديها منظومتها القيمية والمفاهيمية الخاصة التى لا تتقاطع مع المعانى المستقر عليها للديمقراطية والقانون الوضعى والتنمية المتوازنة. وهنا أستعيد المقال المهم الذى كتبه غسان شربل فى الحياة اللندنية بعنوان: «لا تغسل يديك» وأشار له عماد الدين حسين فى عموده بالشروق وجوهره فشل التفسير المنطقى لسلوك جماعات العنف السياسى، بدليل أن هذا السلوك يطول دولاً ديمقراطية وغنية وتعلى قيمة القانون. وهذا معناه أن تلك الجماعات تبحث عن النموذج الموجود فى رؤوس أعضائها حصرياً ولا تتوقف أو تؤجل التصادم مع الأنظمة الحاكمة إلا فى حالتين: أن تتقاتل فيما بينها، كما فى أفغانستان أو أن تمنى بخسائر فادحة كما فى الجزائر. وفى هذا السياق تبرز أهمية النقاش الدائر حول الإسراع بإجراءات التقاضى ردعاً للجرائم الإرهابية، وهو مطلب ضرورى ومشروع وقيل فيه كلام محترم، مثل تعيين مدعٍ عام لتلك الجرائم أو تقليص أمد نظر محكمة النقض فى الطعون، لكن العدالة الناجزة لا تعنى القصاص بأى ثمن، فكلمة العدالة موجودة هنا لتضمن ضبط المناجزة بضوابط القانون، لذلك فإننا مع كل الغضب الذى تمتلئ به صدورنا، ومع كل الرغبة فى الضرب بيد من حديد على أيدى القتلة المجرمين، فإننا لا بد أن نشعر بالقلق من دعاوى البسطاء للتنفيذ الجماعى والفورى لأحكام الإعدام أو من اقتراحات بعض أفراد النخبة بتعطيل شهادة شهود النفى.
تبقى كلمة أخيرة على هامش هذه الجريمة النكراء حول الحاجة إلى التعامل بشفافية مع الشعب فيما يتعلق بالمعلومات، وهى قضية أكبر من أن تأتى فى خاتمة مقال لكن إثارتها واجبة، فلقد داومت البيانات الرسمية حتى إعلان وفاة النائب العام على الحديث عن استقرار حالته الصحية، الأمر الذى مثل صدمة للرأى العام فور إعلان الوفاة، وكان المصريون يتعلقون بأمل أن يكتب الله له النجاة لكن قدره كان الشهادة. وقى الله مصر من كل من يريد بها السوء ورد كيده إلى نحره، وإذا كانت نصال الغزاة قد تكسرت على أبواب مصر، فإن تلك العصابات المتمسحة بالدِّين أبداً لن تنال منها.