كان الخليفة هشام بن عبدالملك فى البيت الحرام فى موسم الحج وكان جالساً بين أصحابه من أهل الحجاز فقال لهم: ابحثوا لنا عن عالم يرشدنا إلى معرفة المزيد من أحكام الحج وسائر العبادات. فبحثوا بين الحجاج حتى وجدوا طاووس بن كيسان جالساً فى إحدى زوايا الحرم فطلبوا منه أن يذهب معهم إلى الخليفة فلبى الطلب، فلما دخل عليه خلع نعليه بطرف بساطه، وسلم عليه من دون أن يدعوه بأمير المؤمنين كما كانت العامة تسلم عليه، بل خاطبه باسمه (هشام) دون أن يكنيه بكنيته. ثم جلس على بساطه قبل أن يسمح له بذلك، فكونت هذه التصرفات غضباً عميقاً داخل نفس الخليفة حتى بدا الغيظ فى ملامح وجهه، فأمسك الخليفة غيظه وكظمه وأخذ يوجه إلى العالم الجهبذ طاووس شيئاً من العتاب الرقيق فى نظره، فقال له: ما حملك يا طاووس على ما صنعت؟ فقال: وما الذى صنعته؟ فقال الخليفة: خلعت نعليك بحاشية بساطى.. ولم تقل يا أمير المؤمنين، وسميتنى ولم تكننى، ثم جلست من غير إذنى، فلما انتهى الخليفة من هذه الأسئلة أجاب طاووس بهدوء تام قائلاً: أما خلع نعلى بحاشية بساطك فأنا أخلعها بين يدى رب العزة كل يوم خمس مرات وقد فعلها من هو أفضل منا جميعاً وكذا خلفاؤه من بعده وسائر الأمة تفعله إذا وقفت بين يدى الله، وأما قولك: إنى لم أسلم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيت أن أكون كاذباً إذا دعوتك بأمير المؤمنين، وأما قولك: إنى ناديتك باسمك ولم أكنّك فإن الجواب على ذلك أن الله عز وجل نادى أنبياءه بأسمائهم كما فى القرآن الكريم، وكنى أعداءه وقد ورد هذا أيضاً فى القرآن الكريم، وأما الأخيرة وهى جلوسى قبل أن تأذن لى، فإنى سمعت أمير المؤمنين على بن أبى طالب (رضى الله عنه) يقول: إن أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام بين يديه فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذى عد من أهل النار والعياذ بالله.
لم يجرؤ هشام بن عبدالملك أن يرد على هذا الرجل، فقد أفحمه -كما يقولون- برد لم يتوقعه، حتى إنه لم ينطق سوى بكلمه واحدة هى: «عظنى يا أبا عبدالرحمن». فأخذ طاووس ابن كيسان يعظه ويذكره بعظم مسئوليته أمام الله عز وجل يوم القيامة، وأن من لم يعدل فى رعيته فإن هناك فى الدار الآخرة أصناف العذاب تنتظره. وبعد أن انتهى العالم الناصح طاووس من موعظته قام وانصرف.
لقد كان العالم يرغب فى أن يلقن الخليفة درساً عملياً.. وقد نجح بشدة فى ذلك.. لأنهم كانوا يعرفون قدر العلماء.. فهكذا كانوا.. رعية وحكاماً!!
وللحديث بقية إن شاء الله..