كانت لكلمة الموت رجة، تهز الوجدان وتزلزل الكيان الروحى لصاحبها، ما أن يتبادر للذهن موت أحد الأقرباء، يمر شريط الذكريات من أمامك، ترى الابتسامة والأمل والمواقف بشكل شاحب، كأن الإضاءة تبهت، غلالة ضبابية تحيط بصورة من تعرف حتى تسحبه فى هوة سحيقة فى جدران الذاكرة تستدعيه حين يحضر اسمه. لكن صعوبة رحيل من لا تعرف أن تصدمك حقيقة أن تكون هو، أن تُقتل فجأة، أو تلفظ أنفاسك الأخيرة دون سابق إنذار، ولا يتذكرك إلا دائرة صغيرة ممن يحيط بك، ألا تصدق مقولة الإمام على «تحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر». أنت ريشة طائر سقطت منه فى ريح عاتية، لم يلق لها عابر بالاً. لم يعد للموت نفس الجلال الذى أخبرنا الرسول أن من يرغب فى واعظ فالموت يكفيه، يموت الناس فى سيناء بغدر على أيدى من كفروا بالحياة وتدثروا بعباءة مدنسة بحثاً عن دنيا لا دين، تسقط دماء جنود ربما لا تعرفهم، ترى فى صحيفة أو قناة صورة لذويهم يبكون، يتذكرون محاسن الشهداء وأحلامهم المبتورة، تتوارى الصورة بانطواء الأيام وتجدد الأحداث والشهداء، قد يحل محلّها مسلسل ما أو برنامج مقالب -مفبرك فى الأغلب- يضحك المشاهد الذى أرضى ضميره بمشاهدة نعوش الشهداء رافلين فى علم وطن حاولوا الحفاظ على عرضه وأرضه. فى بيوت عدّة لا تضحك أسرة كل شهيد، ربمّا فكروا فى نعى وحداد لم تفعله القنوات وفعلته مع النائب العام، العلّة بالرغبة فى استمرار الحياة قد تكون مبررة حال صُنع ذلك فى حادثة المستشار هشام بركات.. ليس للغلابة سوى الحزن.
«أبشع شىء ليس الحزن، ولكن اختفاء الحزن»، هكذا يقول الأديب بهاء طاهر، أن تغيّب الحياة شعورك حتى بالحزن على من يموت دفاعاً عن حياتك ومستقبلك سواء بالحفاظ على الأرض أو بالدفاع عن الموقف، يغلب التبلّد على التصرّف، لا تلقى بالاً لتصريح -أظنّه لا يرضى صاحبه- يصف رئيس الدولة بأنه دون مجاملة يشبه خالد بن الوليد، لا تفكّر فى صعايدة يسافرون على طريقهم كل يوم يلعنون الظروف التى جعلتهم من أهل الجنوب، تكتفى باندهاش عابر ممن يصرّح فى التلفاز كل يوم بتخويف الناس رغم كونه رئيس نادٍ، لا تنظر بعين التحليل لارتفاع سعر تذكرة الدرجة الثانية للقطار عشر جنيهات والضعف للأولى، لا يدور بخلدك أن هناك من مر عليه أكثر من 400 يوم فى السجن ظلماً، يصحو كل صباح على نفس المشهد فى ملل قاتل، سوف تمصمص شفتيك وتكمل يومك بعد أن تسمع فشل قصة حب لعناد الأهل أو غباء التقاليد، لن تناقش فكرة متهمين يشهّر بهم فى الصحف دون أن يحقق فيما نُسب إليهم، لا يُناقش أن السجن تهذيب وإصلاح ليس إكلشيه بل إن بعض الدول تقلل من مدة الحبس بعدد الكتب التى يقرأها السجين، لا يمرق بخاطرك أن سوء الرعاية الطبيّة فى المستشفيات يفسد كل ليلة أرواح بشر، لن تعلّق على المواصلات المتهالكة والوظائف النادرة والطرق البائسة.
أبشع فى كل ما سبق، أنّك صرت تألفه.