إنّ علاقات مصر الأفريقية كانت وما زالت قوية وعميقة ومتشعبة فى جميع النواحى، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وصناعياً وزراعياً وأمنياً. وهذه العلاقات تشهد أحياناً هزات ورجات وأحياناً أخرى صعوداً وهبوطاً، وذلك لارتباط هذه العلاقات بالموازين الدولية والإقليمية، التى تتغير من وقت إلى آخر. وعلاقات مصر الأفريقية فى عصر «مبارك»، كانت فيها إيجابيات وأيضاً فيها سلبيات أثرت على المصالح المصرية بشكل أو بآخر. فقد كان الرئيس الأسبق متأثراً كثيراً بمحاولة اغتياله فى أديس أبابا، وقد تسبب هذا الحادث فى عدم حضوره شخصياً جميع اجتماعات الاتحاد الأفريقى التى انعقدت فى إثيوبيا، فخسرت مصر كثيراً وأعطت الفرصة إلى آخرين مثل إثيوبيا وأوغندا للصعود على حساب مكانة مصر العالية فى شرق أفريقيا. والدبلوماسية المصرية، خاصة فى العقد الأخير من حكم «مبارك»، لم تكن تعطى أفريقيا الجهد والاهتمام الكافى وبما يتناسب مع أهمية هذه القارة الأم لمصر ولمصالحها الحيوية. وكان اتجاه وبوصلة مقطورة التحرك الدبلوماسى المصرى نحو الغرب، والذى كان أول من باع «مبارك» وهلل لسقوطه ومول عمليات هدم نظامه. وبالرغم من سياسات هذه القيادة والمسئولين الخاطئة، فإنّ مصر العظيمة كانت قبلة للأفارقة، فلم يكن يمر عليها أسبوع واحد دون أن تستقبل وزيراً أو مبعوثاً أو رئيس وزراء أو رئيس جمهورية أفريقياً.
والحديث عن تكبّر وتعنّت «مبارك» وحكوماته مع نظرائهم الأفارقة، أمر يثير الغثيان، خاصة إذا قالها مصريون، لأنّها أكاذيب مفتراة أشاعها رئيس وزراء إثيوبيا السابق «زيناوى» بعد أن رفضت مصر السدود الإثيوبية ورفضت التوقيع على اتفاقية عنتيبى عام 2010. كان هدف «زيناوى» إثارة ضغائن دول حوض النيل ضدنا، وبالطبع يردّد هذه الشائعات عملاء الداخل من الأرزقية و«كذابين الزفة» و«خدامين» كل عهد ونظام، وما أكثرهم. هل نتذكر ما قاله «زيناوى» بعد ثورة يناير، وما وصف به كلاً من المرحوم اللواء عمر سليمان والرئيس الأسبق مبارك بالشيطانين الأكبر والأصغر. وللأسف كان يصفق لـ«زيناوى» وقتها وفد الدبلوماسية الشعبية المصرية، فقد كانوا وقتها يمثلون ثوار مصر، آه والله العظيم، تخيلوا كانوا هم ممثلى الثوار، بدلاً من شباب مصر المثقف المتعلم ووقود الثورة ونوارتها. والأدهى من ذلك كان من هؤلاء أيضاً من ترشح للرئاسة وكذلك آخرون ترشحوا لمجلس الشعب، وبقيتهم تلاقيهم فى «التوك شو»، والحمد لله الذى عافانا من شرور أنفسنا. وفى ملف حوض النيل يقال: إنّ هناك تحركات سياسية للرئيس الأسبق مبارك، وتحركات أمنية للمرحوم المشير أبوغزالة والمرحوم اللواء عمر سليمان، وكانت قبلهم تهديدات للرئيس أنور السادات. كانت هذه التحركات من أبطال مصر يدافعون عن بلدهم وحقوقه، وكانت ردود فعل لتهديدات وتحركات إثيوبية تهدف إلى الالتفاف على مصر وعلى حقوقها المائية ومكانتها الإقليمية. إنّ مصر لم تكن أبداً مهاجمة، بل كانت تفعل ما هو أقل بدرجات، وهو الدفاع عن نفسها. كنّا زمان نهاجم ونبادر فى عصر العائلة العلوية، واستمرت المبادرة فى عصر «عبدالناصر» بمشروع السد العالى، ولكن لم تستمر وانزوت بقسوة بهزيمة 1967، وبعدها تحولنا إلى سياسات ردود الفعل والدفاع البحت. أمّا بعد ثورة يناير فقد تدهور الوضع أكثر وأصبحنا لا نجيد حتى سياسات الدفاع عن النفس، والدليل ما أصبحنا نعانيه بشدة فى أزمة سد النهضة.
والشعب المصرى يمتاز بأدب الحوار وجمال الحديث وحسن المعاملة، حتى مع ظهور بعض السلوكيات السلبية مع ثورة يناير. ومصر لها تاريخ كبير فى فن الدبلوماسية، وخبرات متراكمة فى السياسة الدولية، ومصر مميزة بالحفاوة بضيوفها الأفارقة، وبما يفوق عدة مرات عن معاملة العديد من الدول الأفريقية للمسئولين المصريين. مصر تقدم لضيوفها المواكب المهيبة والحراسات والإقامات فى أفخم القصور والفنادق وتنظم الزيارات والرحلات وتقدم أثمن الهدايا والتذكارات. وليس هناك معاملة مماثلة أو حتى قريبة فى أى من دول حوض النيل، إلا فى دولتى إثيوبيا والسودان اللتين تتبعان البروتوكولات الدولية فى هذا الشأن. أمّا فى بقية دول الحوض، فأنت مسئول عن نفسك والسفير المصرى ينتظرك فى المطار وتستخدم عربة السفارة، بل تحجز أنت إقامتك بمساعدة السفارة. ولو أنت سعيد الحظ مثلى، يمكن أن تجد مسئولين إسرائيليين يسمح لهم بالدخول قبلك لمقابلة الوزير الأفريقى وأنت تنتظر فى الاستقبال، ومعلش كل تأخيرة وفيها خيرة. ومصر هى الدولة الأم حمّالة الهموم تجىء دائماً على نفسها لإيمانها بأهمية علاقاتها بدول الحوض، ومثال حى على ذلك كان أثناء إحدى زياراتى إلى أوغندا للتشاور ومتابعة برامج المعونة المصرية. وكانت المعونة المصرية لأوغندا وقتها تبلغ 20٫5 مليون دولار لتطهير المجارى المائية وإنشاء موانئ نهرية ومزارع سمكية. وأثناء الزيارة طالب المسئولون فى أوغندا بالموافقة على مشروع جديد لحفر آبار لمياه الشرب وإنشاء سدود صغيرة، فطلبت منهم عقد مؤتمر صحفى مع المسئولين الأوغنديين للإعلان عن النتائج الإيجابية للمشروع السابق، وللتعرّف على رد فعل الشارع. وأثناء المؤتمر فوجئت بكم هائل من الهجوم والكراهية على مصر وشعبها، بحجة أننا نأخذ مياههم نظير هذه المعونات البسيطة. بعدها قررت، بالتنسيق مع السفارة المصرية، استثمار الجهد والمال لتصحيح صورة مصر إعلامياً، ومطالبة الحكومة الأوغندية باستغلال الميديا المحلية للترويج لهذه المشاريع، وذلك قبل الموافقة على أى مشاريع جديدة. وبعدها بقليل، جاء إلى مصر رئيس الوزراء الأوغندى، واجتمع بالرئيس الأسبق، الذى طالبنى بعد الاجتماع بأن أقوم بتوقيع اتفاقية المشروع الجديد مع أوغندا رغماً عن اعتراضاتى الشخصية، فهل هذا هو التعنّت والصلف المصرى. وواقعة أخرى فى شهر يونيو 2010، بعد أن قامت خمس دول من دول المنبع بالتوقيع على اتفاقية عنتيبى، فقد رفع السيد وزير الخارجية -وأنا معه- مذكرة إلى الرئاسة توصى بتجميد عضوية مصر فى مبادرة حوض النيل، ورفض الرئيس الأسبق هذه التوصية وأصر على مشاركة مصر الكاملة فى المبادرة، حفاظاً على علاقة مصر مع دول الحوض، فهل هذا صلف وتكبر وعنف، أنا والله كنت مسمّيها من جانبى «ليونة زائدة». ومن المضحك أنّه بعد ذلك بأسبوعين أعلنت السودان من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تجميد عضويتها فى المبادرة، واضطرت مصر إلى التنسيق معها فى كل خطواتها حتى لا نفقد حليفنا الأوحد فى الملف. واقعة أخرى علشان خاطر صائمى رمضان، وقد حدثت بعد رفض مصر للسدود الإثيوبية وتوقيع اتفاقية عنتيبى فجاء خطاب «زيناوى» العدوانى فى أكتوبر 2010، وكان هجومه عنيفاً على مصر، وقد حزنت جداً يومها، ولم أنَم، انتظاراً لرد الفعل المصرى، وكان الرئيس الأسبق وقتها فى الكويت ويصحبه وزير الخارجية. وجاء رد الفعل المصرى فى منتهى النعومة، مما أحزننى أكثر، بالله عليكم هل هذا تكبر وتعنت أم مهاودة وملاطفة ومداعبة؟ إنّ التعنت لم يكن يوماً من المصريين، وسوف أسرد لكم وقائع عشتها سوف يتفاجأ بها القارئ عن المتكبرين والمتعنتين الحقيقيين وعن صبر وجمال المصريين، يا صبر أيووووووووووووب!!