كنا فى أبريل 2011، وكانت الثورة فى سوريا ما زالت حديثة العهد، وكانت المعارضة السورية ما زالت تلتزم أساليب الاحتجاج السلمى. لم يكن العسكريون السوريون بدأوا فى الانشقاق عن جيش الأسد بعد، ولم يكن النظام قد فقد سيطرته على أى قسم من الأراضى السورية، ولم يكن هناك لا جبهة النصرة ولا داعش، فكل ما كان هناك هو احتجاجات سلمية آخذة فى الانتشار مدفوعة بنشوة انتصارات الربيع العربى فى تونس ومصر، ونظام يمعن فى استخدام القسوة والوحشية، لقمع المعارضة.
فى هذه الأيام دُعيت إلى التحدث لسفراء دولة أوروبية فى الشرق الأوسط أثناء اجتماع لهم عقدوه فى سفارة الدولة الأوروبية فى القاهرة. سوريا كانت هى الموضوع الذى طلب سفير الدولة الأوروبية فى القاهرة منى التحدث فيه. لم يكن لدى أغلب الحاضرين شك فى أن الديمقراطية هى المحطة النهائية التى سيستقر عندها الوضع فى سوريا، لكنهم كانوا منشغلين بالتحديات والصراعات والأزمات التى ستحدث بين اليوم الذى كنا نتحدث فيه واللحظة التى تنتهى فيها الأزمة السورية بانتصار الديمقراطية.
أغلب الحاضرين لم يعجبهم ما قلته فى هذه الليلة، فوقتها لم أرَ لسوريا هذا المستقبل الديمقراطى الذى تحدّثوا عنه، لكننى رأيت بلداً دخل فى نفق الحرب الأهلية والتقسيم بلا رجعة. لم يكن هناك فى الواقع السورى وقتها ما يؤيد رأيى، لكن لم يكن فى الواقع السورى أيضاً شىء يعزّز رأى القائلين بالمستقبل الديمقراطى لسوريا. كل ما هنالك هو أننى كنت أفسر الأوضاع فى سوريا وفقاً لما أعرفه عن بلد لم أحب بلداً عربياً مثلما أحببته رغم اختلافى الشديد مع نظام الحكم القائم فيه. حبى لسوريا لم يكن هو العامل الذى ألهمنى الرؤية المتشائمة، لكن معرفتى بسوريا وببلاد العرب الأخرى دراسة ومعايشة كان السبب الرئيسى فى الفارق بين ما رآه السفراء الأوروبيون مآلاً لسوريا وبين ما رأيته مآلاً لها.
الغربيون يشاهدون الاحتجاجات الجماهيرية، فيرون فيها تعبيراً عن إرادة شعبية طال قمعها، وابن المنطقة العارف بشئونها يشاهد الاحتجاجات الجماهيرية نفسها، فيرى فيها انتفاضة طوائف طال تهميشها وقمعها. يستمع الأوروبيون إلى حديث النخب المقيمة فى المنفى عن الديمقراطية المقبلة، فيستبشرون خيراً بشأن الأهداف التى خرج من أجلها المنتفضون، ويستنتجون أشياءً عن الطريقة التى يفكرون بها والأهداف التى يسعون إلى تحقيقها، فيما أستمع إلى خطاب ممثلى المعارضة فى المنفى، فأرى فيه أمنيات نبيلة لمثقفين لا يمثلون إلا أنفسهم وحواريين لهم يزيد عددهم فى الخارج عنهم فى الداخل.
تتراخى قبضة الاستبداد تحت ضغط الاحتجاجات، فيرى الغربيون شعوباً تتحرر من نير القمع، ويرون أن الفرصة أخيراً قد أتت لقوى المجتمع الحية، للانطلاق فى حرية من أجل بناء مجتمع العدالة والحرية والمشاركة. أتابع التطورات نفسها فأرى القمقم ينفتح، ليخرج منه الجن محمولاً على جناح قوى قادمة من ماضٍ سحيق تتطلع للثأر لإمام قتل قبل ألف عام، أو لتحقيق السيادة والأستاذية الموعودة على العالم.
يتحدث الغربيون عن الديمقراطية وفى القلب منها الانتخابات، ويرون فيها حلاً لكل صراع، وطريقاً لنشر الاعتدال والحلول الوسط. يطير الأوروبى فرحاً لمشهد الملايين من الناس وقد اصطفوا طوابير فى انتظار دورهم لدخول لجان الاقتراع، وتصبح صورة المرأة العجوز وقد رفعت إصبعها المغموس فى الحبر الفوسفورى عنواناً لوصول قطار الديمقراطية أخيراً لبلاد العرب. أشاهد الصورة نفسها فأسأل عما أخرج العجوز من بيتها؟ وعمن وفر لها وسيلة انتقال إلى مقر اللجنة الانتخابية؟ وعن آخر من همس فى أذنها باسم ورمز المرشح الذى عليها أن تصوت له؟ وما إذا كانت قد سمعت باسم المرشح واسم الحزب أو الجماعة التى ينتمى إليها من قبل؟ وعما تتوقع له أن يحدث بعد فوز مرشحها المفضل؟ وعما يعنيه الفوز فى الانتخابات أو خسارتها بالنسبة لها؟
يشاهد الغربيون طوابير الناخبين، فيرون أفراداً خرجوا للتعبير عن إرادتهم الحرة. أشاهد الطوابير نفسها فلا أرى أفراداً، فالفرد لم يولد فى بلاد الشرق بعد، لكنى أرى جماعات سيقت قطعاناً إلى صناديق الاقتراع مدفوعة بعقد التاريخ وثاراته وجراحه التى لم تندمل، أو بسحر كلام كاهن اختارته وصياً عليها.
ينهمك الغربيون فى تحليل البرامج الانتخابية لأحزاب وجماعات متنافسة فى انتخابات تجرى فى بلادنا، فيصنّفون الأحزاب بين يمين ويسار وفقاً لما يجدونه فى برامجها، وأقرأ البرامج نفسها فأجد لغة مشفّرة للكلمات فيها معانٍ تختلف عن ظاهرها، فالشراكة لها معنى المغالبة، والوطنية لها معنى الطائفية، والأغلبية تعنى سحق الأقلية، والعدالة تعنى الثأر.
لم أكن فى هذه الليلة من أبريل 2011 أنظر فى كرة سحرية، لكننى استعنت بما أعرفه عن بلادنا. كانت خبرة العراق التى جرت تحت أعيننا منذ غزاه الأمريكيون، رافعين رايات الديمقراطية حاضرة بقوة فى ذهنى، فما فشل فيه العراقيون بمعاونة أمريكا وحلفائها يتعذر أن تنجح فيه شعوب لا تفوز من عون الغرب سوى بحلو الكلام والأمانى المعطرة.
لست سعيداً بأن توقعاتى المشئومة تحققت، فحقائق الأوضاع فى بلاد العرب لا تسعد أحداً. أهل مكة أدرى بشعابها، هذا ما تأكدت منه. الغرباء قد يتمنّون لنا الخير أو قد يتآمرون علينا، هذا شأنهم، أما شأننا فنحن أدرى به. أحلم للشرق بالديمقراطية، وأعرف أنها لن تأتى له سهلة طيعة ولا بالطريقة الساذجة التى يتخيلها الغرب.