مرت الأيام فى المنزل ذى رائحة التفاح حميمة، هادئة وعطوفة كأجواء وعبير تلك البلاد الخليجية الطيبة (البحرين)، وقتها كان كل شىء يسير على ما يرام، وبهدوء وجمال فائق، هكذا بدا الأمر وفجأة دون سابق إنذار تقوم حرب الخليج، لقد كان العام ٩١، كنت وقتها فى الصف الثانى الإعدادى فى عطلتنا السنوية بمصر وعلى الفور عدنا للبحرين، لم يفكر أبى للحظة فى عدم الرجوع، بل عدنا وعايشنا الأحداث عن قرب، كانت جملة أبى (أنا لا أترك بلداً أكرمنى واستضافنى أنا وأسرتى بكل حب فى وقت شدته وخطر يتربص به) وكان بالبحرين حينها أهم وأكبر قاعدتين أمريكية وبريطانية وبذلك كانت جبهة أخرى لحرب الخليج الثانية أو (عاصفة الصحراء)، كانت تجربة فريدة تنقش فى الذاكرة ولا تمحى، ما زالت تنبيهات الإنذار فى التلفاز وتغطية قناة «إم بى سى» والفضائية المصرية ووجوه مذيعيها تخترق ذاكرتى، ما زالت أصوات صدام والصحاف وبوش الأب فى أذنى والتى كانت تتلاقى مع تنويهات التلفاز وصفارات الإنذار، ازدحام مزعج لأحداث سخيفة.. إنها آلة الحرب، كنا مدربين جيداً لهذا الوضع من خلال برامج التوعية والتثقيف التليفزيونى والمنشورات الإرشادية وبدورنا كنا نتبع التعليمات بكل دقة وتركيز، بداية من وضع الشريط اللاصق على النوافذ على شكل حرف x مروراً بإطفاء الأنوار والاختباء فى الحجرات السفلى من المنزل وتحت أى سطح كطاولة مثلاً، وصولاً إلى تخزين مأكولات معلبة وكمية وفيرة من مياه الشرب (وللمرة الأولى أصبحت صناديق التفاح كنزاً استراتيجياً وجندياً قوياً فى منزلنا)!!
التزم الجميع بهذه الإجراءات لفترة ولكن بعد أن زاد عدد الأيام بدأ المواطنون والوافدون فى الخروج لمشاهدة ومتابعة عمليات التصدى لصواريخ «سكود» العراقية بنظيراتها «باتريوت» الأمريكية، نعم ما زلت أذكر أسماءها فقد كانا بطلَى المرحلة، أصبحت لدينا مناظير نراقب بها الفضاء، وكانت رؤوس الصواريخ المدمرة عندما تَسقط، تُسقط فى قلوبنا الفزع، الصوت كان مدوياً وأحياناً يصاحبه هزة، فى كل مرة كنا ننتظر إشارة التلفاز وكلمة (زال الخطر) all clear، كانت أقنعة التنفس تحسباً لحرب صدام الكيميائية تلقى سوقاً ورواجاً كبيراً، فعلها دائماً الشيطان الأمريكى بجدارة، ألقى بالكويت طعماً يصطاد به العراق وقائده الذى طمع بالجارة، وعلى الفور تقمص دور المنقذ ليهلك العراق وحضارته وثرواته وشعبه وينهب خيرات الكويت وباقى دول الخليج التى خافت التوغل العراقى، وأرادت صد العدوان، لقد بلعنا الطعم جميعاً بمنتهى السذاجة، وما زال الجميع يدفع الثمن، كيف كنا بذاك الحمق، جميعاً كيف كنا؟!
لقد وصل بنا الحال إلى أننا تصورنا أن الأمريكيين جنود الرحمة ورسل العناية الإلهية، أتذكر بعد انتهاء الحرب وعودة الأمور إلى نصابها أننا كنا عائدين من مسابقة مدرسية رياضية وتصادف أن مرّ باص جنود أمريكيين بقربنا فظللنا نلوح لهم ونحييهم وهم أيضاً حتى أن باصهم اقترب من بَاصنا جداً وأهدونا قبعاتهم العسكرية كتذكار، وفى المدرسة كانت فرحتنا بالقبعات أكثر من فرحتنا بالكأس الرياضية التى حصلنا عليها.. إنه غسيل الدماغ الأمريكى الصهيونى عندما نتحامق نحن أمة الضاد فنكون فريسة ولا أسهل.
ومن الذكريات التى لا تُنسى أنه فى امتحان الفصل الدراسى الأول فى الشهادة الإعدادية كان سؤال مادة التعبير عن حرب الخليج، ومن سخرية القدر أن الامتحان كان فى أجواء الحرب وتخلله نعيق صفارات الإنذار البغيض، انطلقت فى التعبير والحكى والفلسفة، فلسفتى الخاصة، طفلة فى الرابعة عشرة مصرية تعيش بدولة خليجية وتعيش معركة لا دخلَ لها بها، ولكنها تقبع فى وسطها بالوجود وبالمعايشة الكاملة للأحداث وقد رفض أهلها ترك البلاد التى طالما أسعدتهم، لأنهم اعتبروا أنفسهم جزءاً أصيلاً منها، يومها كتبت أربع صفحات من الحجم الكبير، وأثناء التصحيح رغبت لجنة التصحيح فى معرفة التلميذة صاحبة المنطق والأسلوب المميز وكُرّمت على موضوع تعبيرى الفريد ورأيى الإصلاحى الذى تبنيته منذ الطفولة.. فكتبت حينها تنظيراً شاملاً يجرّم جميع الأطراف وينعى أمة عربية بدأت بالضياع... نعود لتفاحاتنا ورائحتها التى لم تغب يوماً فى السلم أو فى الحرب.
وإلى اللقاء مع حلقة جديدة من «المنزل ذو رائحة التفاح».