كثيراً ما يتعجب الشخص العادى من اهتمام الآخرين بقضايا الشأن العام مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان ويسأل لماذا وما الدافع؟ وعادة ما ينظر إلى المهتم بالشأن العام، على أنه إما مجنون أو أفاق يسعى وراء مصالحه الخاصة بغلاف متعلق بكلمات مقعرة، ولا يصدق أن الدفاع عن الوطن بالمفهوم العام الشامل لحقوق كل مواطن فى الحياة الكريمة والمعرفة والحصول على المعلومات التى تمكنه من الوصول إلى الفرص بصورة عادلة هو من صميم الدفاع عن الحقوق الفردية الخاصة. وأنه لا انفصال بين الدفاع عن الوطن والدفاع عن النفس، حقيقة أدركها أهلنا من الفلاحين البسطاء، وربما غير متعلمين، ولكنهم علمونا، ربما لم يستمدوها من كتب التنظير السياسى، لكن علمتها إياهم نبتة الأرض ألا وهى «الأرض عرض»، وكذلك نقشوها من الصغر لتكون كالنقش على الحجر عندما غنوها «عوّاد باع أرضه، شوفوا طوله وعرضه»، نعم إنها العلاقة الواضحة بين العام والخاص، علاقة التطابق والتوحد. فحينما ندافع عن حقوق الإنسان ندافع عن حقوق أبنائنا من أن تنالهم، ولو عن طريق الخطأ، انتهاكات مهووس بالسلطة، وعندما نتصدّر للدفاع عن المتهمين أياً كانت التهم، فنحن فى الوقت نفسه، ندافع عن دولة القانون والوصول إلى العدالة، وعندما نطالب بالمعاملة الآدمية فى السجن، فنحن نتحسب لوقت قد ندخله، فلا يوجد أبلغ من افتتاح شمس بدران أحد كبار قادة الحقبة الناصرية، لسجن، وهو فى السلطة ليكون أول من يُسجن فيه، أو أن يُنشئ «مبارك» أكاديمية الشرطة ويدخلها تارة بالأبواق والتحية العسكرية، وتارة وهو متهم تحت المحاكمة ضعيف منزوع القوى. الدولة القوية بالعدل والحق يحميهما القانون، هنا يصبح الدفاع عن الوطن هو الدفاع عن الذات، فنحن بلا وطن كمركب ورق تتقاذفه موجات المحيط.
هذه الحقيقة دافع كافٍ للنضال لتصويب سياسات أو تعديل قوانين، دون المساس بالمؤسسات، لكن هذا الفرق كثيراً ما يغيب عن بعض الشباب المتحمس الذى يخلط بين نقده السياسات أو تدميره المؤسسات، يسعى لتطبيق نظريات يقرأها دون إدراك لتفاعلات الواقع وتحديات التنفيذ. ربما تكون رسالة الأستاذ السورى من حلب المنتحر هو وزوجته هرباً من «داعش» أبلغ رسالة إلى أطراف عدة، الأشخاص العادية التى لا تهتم بشىء غير همها الخاص وقوت يومها، الشباب الثائر الحالم الذى تتوقف معرفته عند حدود النظريات السياسية، مَن فى السلطة الذى يحتم عليه دوره وواجبه الإعلاء من دولة القانون واحترام حقوق الإنسان، حتى ونحن نواجه الإرهاب، رسالة الأستاذ من حلب أكبر دليل على توحّد الخاص بالعام. أستاذ حلب أو بالأحرى شهيد حلب هو ببساطة رجل عادى اهتم بحياته اليومية وطلابه فى الفصل، واستشعر أن ما يحدث فى سوريا هو معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، ظل يؤدى دوره كمدرس على أكمل وجه إلى أن دخل الدواعش الجهلة بلدته وجعلوا فراش المدرسة مدير المنطقة التعليمية، الذى بدوره بدأ يلغى التعليم ويطلب من المدرسين الاستتابة عن تعليم الكفر الذى قاموا به فى الفترات السابقة، فكر المدرس فى مصيره وهو مساق إلى المجزرة لذبح رقبته وفكر فى زوجته التى ستساق للبيع فى سوق النخاسة ولم يجد حلاً لإنقاذهما سوى دس السم لزوجته وله، لينتحرا وتدل الرائحة على جثمانها بعد ستة عشر يوماً. إنه المدرس المسالم الذى لم يعتقد يوماً فى الربط بين المصالح الفردية ومصالح الوطن، وأن الدفاع عن الوطن ليس مهمة الجيوش فقط، إنها رسالة قاسية لكنها معبّرة، الحفاظ على مصر مهمتنا جميعاً، أن نتحمّل معاً الصعاب، أن نصر على إعلاء دولة القانون وتطبيق المساواة والعدل، أن نعلم أنفسنا وأولادنا الفرق بين نقد السياسات وهدم المؤسسات، أن نحتوى شبابنا وأن نعفو عنهم ونناقشهم ونتحمّلهم، حتى لا يخطفهم منا الأعداء، حتى لا نضطر يوماً إلى وضع السم لأنفسنا ولأطفالنا.