عندى خيال إن أبويا وأمى اللى كانت صحتهم تهد الجبال بقوا ضعفانين.. عندى خيال إنى بقيت مشغولة جداً عن أهلى.. مابقتش أزورهم غير يوم كل شهر وساعات كل شهرين ويا ريته يوم ده بيبقى ساعة مش أكتر من كده.. كان تليفونى يرن أرد ألاقى أمى تقولى إنها تعبانة تعالى فأحس إنها بتتدلع وأقولها «مشغولة والله.. هعدى عليكو بكرة أو بعده بالكتير» ويعدى بكرة وبعده يمشى ومابعديش.. تتصل تانى فأرد وسط ما أنا بأحمى بنتى بعد تمرين السباحة وأقفل معاها فى الكلام.. فضلنا كده لحد ما رن تليفونى بنمرة أخويا وقالى «تعالى بسرعة أمك تعيشى إنتى».. إيه! أمى إيه؟ إزاى؟؟ لا لا أمى كويسة أنا عارفة أصل إزاى تموت؟؟
رحت فعلاً شفتها نايمة عالسرير مغطيينها.. شفت جنب منها طرحة صلاها وكتاب الأذكار بتاعها.. لما كان حد يقولى «شدى حيلك» ماكنتش بلاقى كلام أقوله فكانت دموعى ترد عليهم.. رفضى لفكرة إنها ماتت خلانى شلت الغطا من على وشها لأنى خفت عليها لتتخنق.. حطيت راسى على إيدها ونمت.. لما نمت شفت نفسى وأنا صغيرة وهى بتجرى ورايا.. شفتها وهى بتذاكرلى وهى قاعدة سهرانة تجلد كراريس المدرسة.. شفتها وهى راجعة تعبانة من الشغل وشايلة أكياس الخضار وداخلة جرى عالمطبخ تطبخ بلبسها.. شفتها وهى بتلعب معايا على رمل إسكندرية.. شفتها وهى بتعمل نفسها شبعانة عشان نكمل أنا وإخواتى الأكل اللى كانت بتبقى ماكلتش منه معلقة واحدة.. شفتها وهى لابسة هدومها القديمة عشان تجيبلى أشيك لبس أخرج بيه ويّا صحابى.. شفتها فى فرحى وهى واقفة بتخبى بكاها بابتسامة.. شفتها وأنا داخلة أولد واقفة قصاد الأوضة بتبكى.. شفتها وهى شايلة بنتى بتحضنها وتقولها إنتى بنوتى الصغيرة.. شفتها وهى بتقولى نامى إنتى ارتاحى أنا هسهر مع بنتك بدالك.. شفت تجاعيد وشها بتزاحم ابتسامتها.. شفتها قاعدة منحنية بان عليها وجع الزمن قاعدة جنب بنتى برضو عالرمل بتلعب معاها.. بس قبل كل ده شفت نفسى وأنا مابروحش أزورها.. شفت نفسى وأنا بأوووف لو طولت فى المكالمة.
فتحت عينى لقيتهم داخلين عليا يقولوا «يلا إنتى قلبك ضعيف اطلعى هنغسلها»، لأ أمى والنبى لأ.. بكيت، فضلت واقفة مكانى مش عارفة أعمل إيه، طلعونى بره، غسلوها وكفنوها.. أمى خارجة ملفوفة بأبيض.. بس خارجة ساكتة خالص فين صوت ضحكتها؟ ولا حتى زعيقها؟ فين حتى صوت نفسها؟ وصلنا المقابر.. فتحوا الأوضة اللى تحت نزلوها.. فضلت أصرخ وأقولهم «مش همشى وأسيبها هفضل جنبها هى أكيد هتخاف فى الضلمة لوحدها هفضل معاها وجنبها»
تليفونى رن.. إيه ده! أمى؟ «آلو أيوه يا أمى؟ أبوكى بيقولك أخوكى جاى يتغدى معانا ما تجيبى بنتك وتيجى».
تليفونى موت خيالى.. الحمد لله إنه كان خيال.. الحمد لله بابا لسه عايش وكويس.. بس المزعج إن خيالى فى يوم أكيد هيبقى واقع.. الموت واقع محدش يقدر يرفضه.. بس فيه واقع تانى إنت لازم ترفضه وهو إنك تبقى مقصر ناحية أهلك لأى سبب.
أهلك تعبوا أوى عشان يكبروك.. يعلموك.. يجوزوك.. وآخر تعبهم بيوصلهم لبيت فاضى.. همّا بيسلموك حياة فابريقة وإنت بتسلمهم شوية صور ليك ولولادك.. بتسلمهم بيت مافيهوش غير أب كبير ذكرياته بتزاحم تجاعيد وشه.. وأم ماتملكش غير الابتسامة اللى معاها دموع بتملى عنيها أول ما بس تبص على البراويز اللى فيها صورها ويّا ولادها أيام ما كانوا فى حضنها وصغيرين.. بتسلمهم لحياة نبضها ذكرياتهم معاك ومع إخواتك.. ذكرياتهم بتحييهم.. ذكرياتهم هى السبب فى دقات قلبهم.. أرجوك بلاش وجودك فى حياة أهلك يقتصر على تليفون خايب كل كام يوم منك ليهم ولا تخلى ابتسامتهم تبقى سببها شوية ذكريات فى صور لما بيبصوا فيها بيحسوا بإنك جوه حضنهم.. إنت موجود ليه تخليهم يتبسطوا بس بالذكريات؟ روح لأهلك.. ولما تروح اقفل موبايلك واقعد معاهم.. اسمع حكاياتهم.. خليك حنين عليهم.. الموت مش هيستناك لما تشوف أبوك أو أمك.. الموت غير مزود بخاصية الانتظار.