ليس فقط القهر السياسى والظلم الاجتماعى والاقتصادى من دواعى وأسباب الثورة أو التمرد أو العنف السياسى، حسب نظرية للثورة خلص إليها ماتوسيان وشيفر 1977: الشرط الأساسى لاندلاع الاضطرابات هو زيادة مفاجئة غير عادية فى السكان، زيادة تتجاوز الزيادة التى يتمكن النظام الاقتصادى والاجتماعى من استيعابها.
ومثال ذلك زيادة معدلات إنجاب الأطفال فى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، وهؤلاء هم من قادوا التمرد فى الستينات، إذ تولوا مقاليد الأمور فى جامعات هارفارد وكولومبيا وبيركلى، وكذلك مظاهرات شيكاغو 1986 أثناء مؤتمر الحزب الديمقراطى، وكذلك فى جامعة كنت الحكومية بعد غزو كمبوديا 1970.
وبناء على ذلك، فإن فترة مابين 21 - 29 سنة (متوسط 25 سنة أو جيل واحد) هى الفترة الفاصلة بين ضغط السكان وبين الاضطراب أو العنف السياسى، هذا جيل تربى على توقعات بالتوسع الاقتصادى الموازى للتفجر فى الخصوبة والسكان، ولكنه فى العشرينات من عمره انحدرت آماله ووجد الواقع مخيباً لآماله.
وضربا مثالاً آخر لدعم نظريتهما بثورات الأعوام 1830، 1848، 1871 فى فرنسا عقب زيادات مفاجئة فى الضغوط السكانية كانت قد سبقت تلك الثورات بـ23 سنة و26 سنة و29 سنة على التوالى، ثم إن أهم ما فى هذه الزيادة السكانية -كنقطة ثانية- هو زيادة حادة فى عدد الذكور، وهذه الزيادة -وفى ظل عدم القدرة على تلبية التوقعات والطموحات، والاستيعاب السياسى والاجتماعى والاقتصادى- تؤدى إلى شعور بالاغتراب يوفر احتياطياً من الثوريين المحتملين.
ونتيجة لهذه الزيادة السكانية وضغوطها، ينشأ أكبر قدر من العداوة بين الأب والابن، وبين الإخوة وبعضهم، بينما تتعزز العلاقات الإيجابية بين الأم والابن، البيوت المكدسة بالسكان والعاجزة عن تحقيق المطالب الحياتية وتكوين علاقات تتسم بالتآلف والانسجام بين الأب والابن وبين الإخوة هى تربة خصبة للغضب والتمرد والثورة، وعلينا انتظار مرحلة الرشد للتعبير عن السخط.
العنف السياسى ينشأ نتيجة لخيبة الأمل، كما يقول دين كيث. هذه التوترات الأسرية تقدم الرابطة السببية التى تربط ما بين تلك الانفجارات السكانية والثورات، كما تنتج المبدعين فى المجالات الأدبية كما تنتج الشباب الثوريين.
وبتطبيق ذلك على 25 يناير فى مصر ومن مراجعة إحصائيات السكان -حسب البنك الدولى- لم أجد زيادة (مفاجئة غير عادية) فى عدد السكان قبل 21 إلى 29 عاماً من 25 يناير 2011 بل كانت الزيادات مطردة بنسب معقولة وتقترب من الثبات.
السبب الرئيسى هو عدم تلبية احتياجات السكان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو ما أدى بالطبع إلى زيادة التوترات الأسرية وعلاماتها كأمثلة: زيادة جرائم العنف الأسرى وزيادة حالات الطلاق وزيادة القضايا فى المحاكم مع ملاحظة غياب الأب، سواء للعمل فى خارج البلاد أو فى أكثر من عمل داخلها فى معظم الحالات، مما شوه علاقات الأبناء الذكور بآبائهم.
عموماً الثورة تحتاج إلى إجراء أبحاث تتعلق بجوانب مثل تلك التى أثرناها، خاصة أن المجموعة الأولى وهم قادتها الحقيقيون التى حضّرت للثورة وبدأتها الثلاثاء 25 يناير، وبنظرة أولية خاطفة لم يكونوا ممن يعانون إحباطات اقتصادية بل سياسية، أتى المحبطون اقتصادياً بعد ذلك اليوم.
ربما يمكن النظر إلى التوترات الأسرية التى يتحدث عنها الباحثان، ليس بمعنى أنها ذات منشأ اقتصادى فقط، ولكن بمعنى فكرى وفلسفى، فهؤلاء الثوريون يحملون أفكاراً عن العدالة والمساواة والحرية والدين تخالف الآراء السائدة لدى أسرهم، وهو ما يخلق توتراً بينهم وبين آبائهم ومجتمعهم الأبوى أيضاً الذى عجز عن تلبية احتياجاتهم -أياً كانت- مما ولد شعوراً بالاغتراب والتمرد.