«أدناه ما ترى».. عبارة القطب الصوفى الكبير «الحلاج» وهو مصلوب قبل أن يُقتَل مجيباً على أحد تلاميذه الذى لم يرتضِ مفارقة شيخه قبل أن يوقف حيرته ويهدى سبيله ويجيب له -ولنا جميعاً- على السؤال الأبدى: «ما هو الحب؟»، استدعت ذاكرتى السؤال والإجابة، لأننى حقاً مصلوب فى طيفها منذ لقائها.
قابلتها مرة واحدة فقط، أو مرات عدة، يا ربى لا أعلم كم من المرات التقينا، ربما السبب أن معظم لقاءاتنا إلكترونية عبر «الفيس بوك». لكن الذى أعرفه جيداً أننى شاهدتها «هند» التى افتتن بها الحجاج بن يوسف الثقفى وتزوجها عبدالملك بن مروان، شاهدتها «عشتار» بنت وادى الرافدين التى ملأت التاريخ عطراً وأريجاً، تلك التى لُقّبت بإلهة الأنوثة والجمال فى العراق القديم، امتلكت جدائل شَعر «غجرى» وقواماً وتقاسيم تضاهى ما ذكره التاريخ عن «أوروبا» الأسطورة اليونانية التى حيّرت المحبين وكانت ملاذ الشاردين وسبيلهم فى طريق الهوى.
مجالستها نعيم، وباغترابها عرفت ما يمكن أن يكون أشد من الجحيم، وفى خضم سير الحكاوى المتبادلة على خلفية موسيقية صوفية هادئة جال بالمكان ثم اختار أن يستقر بيننا طيف «مولانا جلال الدين الرومى» مبتسماً وموزعاً «بينى وبينها» نظراته الحانية مردداً جزءاً من ترنيمته الأبدية قائلاً «لا تدع عينيك تبصران من دونى، لا تدع لسانك ينطق من دونى، لا تدع يديك تعانقان دونى، ولا تدع روحك تتحرك من دونى، ضوء القمر يظهر للسماء وجهه البراق، أنا الضياء وأنت القمر، ويل لأولئك الذين يسافرون وحدهم، أنت تعرف كل علامة، وقد مشيت على كل مسار، لا تذهب من دونى، بعضهم يدعونك حباً، أنا أدعوك ملك الحب، أنت تتجاوز كل الخيالات، تأخذنى لأماكن لا أستطيع حتى أن أحلم بها، يا حاكم قلبى أينما ذهبت، لا تذهب من دونى».
يا الله، كلمات تسقى قلباً ظامئاً، وتشفى قلباً سقيماً، وتروض قلباً متمرداً.. وزادت بسماتها الصافية النقية بهاء الجلسة والحوار، وضحكاتها الهادئة عكست توهجاً متسللاً لشريان الحياة بداخلى، وربما شاهدتها بتقاسيم وجهها «أفروديت» إلهة الحب والجمال عند الإغريق.
ولأنها تركتنى أحيا، بعد رقاد وسُبات، أناشدها وأناجيها ببعض مما تركه لى ولها الشاعر الصوفى العفيف التلمسانى قائلا «بَلَوْتُ الهَوى قَبْلَ الهَوى فَوَجَدْتُه، إِسَاراً بِلاَ فَكٍّ، سُقَاماً بِلاَ طِبِّ، بِرُوحِى حَبِيبٌ لاَ أُصَرِّحُ باسْمه، وكُلّ مُحِبٍّ فَهْو يُكْنِى عَن الحُبِّ، بَرانِى هَوَاهُ ظَاهِراً بَعْدَ بَاطِنٍ، فَجِسْمِى بِلاَ رُوحٍ وَقَلْبِى بِلاَ لُبِّ، بِحُبِّكَ هَلْ لِى فِى لِقَائِكَ مَطْمَعٌ، فَإِنِّىَ مِنْ كَرْبٍ عَلَيْكَ إلى كَرْبِ».
صعوبات كبرى لنتعرف على قلوبنا بأنفسنا، رغم أنها قصت لى أشياء بديعة عن ذلك القلب الذى ينبض بداخلى ولكنه لا يحيا، وأنا لا أعلم، قلوبنا ترق وتدق دلالة للحياة التى نبضت بها لمن هم على بعد خطوات أو من بيننا وبينهم بحار وقارات.
الآن كثيراً أغمض عينَى وأترك كل حواسى تذوب فى آخر ملمس عطر، ولكن جراح المصلوب ما أعانيه، لا يضمدها سوى الكتابة، فأكتب وأكتب وأكتب لأننى لا أملك شيئاً، لا أملك مالاً، لا أملك مكانة بهذا العالم يمكن أن تكون سبيلى لها، لا أملك من جدران العالم إلا قلبى والكتابة، ربما يصلها ما أكتب وربما لا يصلها أبداً، لأننى فى مشاعرى رعديد، فجبنى من الصدمات يفوق هلع الحريصين على الحياة من الممات، ويكفينى أن أكتب لى ولها وللعالم حتى وإن لم تقرأ.. إننى منذ قابلتها وتلاقت عينانا وتخللت راحتى راحتها واقترب للحظة وجهى بحروف وجهها، شعرت بما تركه «الحلاج» ونسجه فى معشوقه قائلاً «والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا وحبّك مقرون بأنفاسى، ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم إلا وأنت حديثى بين جلاسى، ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحاً إلا وأنت بقلبى بين وسواسى، ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رَأَيْتُ خيالاً منك فى الكاسِ، ولو قدرتُ على الإتيان جئتُكم سعياً على الوجه أو مشياً على الراس».
وأخيراً.. قالت الإعلامية والكاتبة والشاعرة كريمة عوض ضمن إحدى قصائدها «أنت لى عشقاً وسنداً»، وقال المتصوف والشاعر شمس الدين التبريزى «إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس»، وهى حقيقة.