فى عشرة أيام فقط دفع عشرات المصريين أرواحهم ثمناً لإهمال جسيم ينخر سوسه فى عظامنا: أكثر من أربعين ضحية فى الوراق وأربعة أطفال فى بنى سويف وستة وعشرون عاملاً فى العبور. يستطيع الإهمال أن يخرج لسانه على أقصى امتداده للإرهاب، ففى الأيام ذاتها لم يتمكن إلا من النيل من خمسة شهداء: أربعة فى رفح وواحد فى الهرم، أى أن ضحايا الإهمال يبلغون أربعة عشر مثلاً لضحايا الإرهاب، وهو ما يكفى لكى لا يغمض لنا جفن حتى نجتث الاثنين معاً، وعلينا أن نتدبر الدلالة جيداً، فصحيح أن الإرهاب خطر على وجود الدولة المصرية ذاته لكنه معروف لدينا ورجاله قلة من المضللين أو المرتزقة ومؤسساتنا المعنية وعلى رأسها قواتنا المسلحة وقوات الأمن تتصدى له بجسارة وكفاءة، أما الإهمال فرجاله ليسوا قلة وإنما هم متغلغلون بيننا نجدهم بين صفوف كبار المسئولين ومتوسطيهم وصغارهم والأدهى أننا نجدهم أيضاً داخل نسبة يعتد بها من المواطنين الذين يرون مظاهر الإهمال ويسكتون فإن تكلموا لا يتابعون بل ويمارسون الإهمال بدورهم، ولذلك فإن جيش الإهمال جرار إذا قورن بجيش الإرهاب.
المخيف أننا عندما نمعن النظر فى الإهمال نصاب بالرعب إذ نكتشف منظومة متكاملة له تبدأ بغياب القانون مروراً بغياب الرقابة وانتهاءً بغياب العقاب، فمركب الوراق تتراوح الأقوال بشأنه بين أنه لم يكن مرخصاً أو أنه كان كذلك لكن ترخيصه مزور وبغض النظر عن ذلك فالمؤكد أن حمولته زائدة زيادة فادحة والسائق لا يحمل رخصة فضلاً عما تحدث به الناجون من أنه كان يشارك فى الرقص مع الركاب ويترك المركب دون توجيه ولا يسمع كلاكسات الصندل التحذيرية ثم يحاول أن يسبقه بإمكانات مركبه المتواضعة فيفشل وتقع الكارثة، والصندل بدوره غير مرخص له إلا بمقطورة واحدة (لم يتطوع أحد لإخبارنا بكم مقطورة كان يسحبها). القانون إذن غائب ناهيك عن سلوك الإهمال المتأصل فى الجميع من سائق فهلوى يرقص ويسابق الصنادل إلى مواطنين يقبلون التكدس الذى يعرض حياتهم للخطر ويسكتون عن تصرفات رعناء أودت بحياتهم، والمؤسف أن الرقابة كانت موجودة لأن شرطة المسطحات المائية تغلق المراسى النهرية غير المرخصة وتمنع المراكب غير المرخصة والسائقين غير المرخصين لكن الأجهزة المحلية تسمح بالعودة للعمل دون توقيع عقوبة، وهنا يتكاتف الفساد مع الإهمال فى التنكيل بنا.
الأمر لا يختلف على الإطلاق فى حادثة قتل أطفالنا بمحلول لمعالجة الجفاف مخالف للمواصفات ينتجه مصنع للأدوية برخصة منتهية مخالفاً لشروطها لكنه يصل إلى صيدليات المستشفيات، والتناقض مروع بين أن يقول وكيل وزارة الصحة بالمحافظة إن العقار غير مسئول عن وفاة الأطفال دون أن يجشم نفسه مشقة التحوط وبين قرار وزير الصحة بإغلاق المصنع الذى ينتج العقار المخالف ويجد البعض فى أنفسهم الجرأة على القول بأن هذا قد يحدث هزة فى صناعة الأدوية ويضر بسمعتها خارج مصر، والصيدلية المتهمة (بماذا لست أدرى فهى توزع دواء يفترض أنه مر بكافة الإجراءات الرقابية) تشير إلى علامات إهمال جسيم وربما فساد بالتصريح بأن هذه لم تكن البداية وإنما بدأت الكارثة فى عيد الفطر لكن التعتيم تم على ما جرى، وجهة الرقابة الدوائية تفتى بعد قتل الأطفال بأن العقار مخالف للمواصفات كحالنا مع كاميرات المراقبة التى لا نلتفت إلى ما تسجله إلا بعد أن تقع الكارثة.
وفى مدينة العبور (يا لها من مفارقة) يعمل المصنع بترخيص منتهى الصلاحية ويفتقد أبسط معايير السلامة المهنية ومنها على سبيل المثال لا الحصر عدم وجود منافذ كافية للنجاة وهو الأمر الذى يفسر الخسارة العالية فى الأرواح وعدم وجود نظام كفء لإطفاء الحرائق خاصة أن المصنع يستخدم بكثافة مواد كيماوية وقوات الحماية المدنية تكافح النيران الناجمة عن مواد كيماوية بالمياه، لكن الرقابة السابقة على الكارثة كانت موجودة أيضاً، فقد صرح مصدر بوزارة الداخلية بأن رخصة مصنع العبور منتهية منذ العام الماضى، وأنه تم تحرير محضر ضد إدارة المصنع، وأن سبب عدم تجديد الرخصة هو عدم توافر شروط الأمن الصناعى، وأن إخطار الجهات المعنية قد تم فى حينه لاتخاذ الإجراءات القانونية لكن شيئاً لم يحدث، ولا ندرى ما إذا كان الإهمال مجدداً هو المسئول عن عدم اتخاذ هذه الإجراءات أم أن الفساد -الراعى الأول للإهمال- هو المسئول، ويؤكد رئيس جهاز مدينة العبور هذه الحقائق المفزعة بقوله إن المصنع يعمل منذ سنوات دون ترخيص وإن إنذاره قد تم أكثر من مرة وحررت جنحة ضده فى ٢٠١٣ فهل يوجد اضطراب فى علاقات الإشراف والتبعية الإدارية إلى الحد الذى يجعل دور رئيس جهاز المدينة مقتصراً على الشكوى؟
يحتاج المرء إلى معجزة كى لا ينفجر رأسه من كل هذا الإهمال وتفاصيله، والمرعب أن عمر الإهمال لا يقاس بهذه الأيام العشرة التى وقعت فيها الكوارث الثلاث الأخيرة وإنما يمتد عقوداً، ومن لا يصدق عليه أن يتذكر الباخرة دندرة وعبّارة الموت وحرائق الأوبرا ومجلس الشورى ومركز المؤتمرات ومظاهر الإهمال الصارخ فى مستشفياتنا التى يعلمها الكافة، والمفارقة أننا مقبلون على يوم مجيد يشهد للشعب المصرى وقيادته بالوطنية الحقة وقوة العزم والإخلاص فى العمل لكن هذه الروح تأبى أن تسرى فى جوانب حياتنا فما العمل؟