سألنى العديد من الأصدقاء والقراء سؤالاً صعباً محتواه أنّه «هل مبارك والقيادات السياسية للدولة قبل ثورة يناير كانوا يعلمون بالأخطاء التى ارتكبت فى ملف حوض النيل، وهل اتخذوا الإجراءات اللازمة لتصويب هذه الأخطاء؟»، والحقيقة أنا لا أستطيع أن أتحدث بلسان أحد، خاصة بعد انزوائهم عن الحكم، أمّا انطباعى الشخصى فإننى أعتقد أنّ معظمهم لم يكن على علم بدقائق الأمور فى فترة ما قبل تكليفى بالوزارة، أمّا ما أستطيع تأكيده أنّه بعد حوالى سنة من تكليفى بالوزارة، أصبح الجميع على دراية بأدق التفاصيل، لأننى قمت بذلك بنفسى فى أحد اجتماعات اللجنة العليا لمياه النيل، وتحديداً فى الثانى من شهر مايو 2010. وقد يتساءل البعض لماذا انتظرت أكثر من عام كامل قبل المكاشفة حول هذه التفاصيل. والإجابة أنّ هذا التأخير كان يعود لسببين، أولهما أننى لم أكن أعتقد أنّ معظمهم كان يجهل هذه التفاصيل، وخاصة أنّهم كانوا قد قضوا سنوات طويلة فى مناصبهم، وثانيها أننى كنت أحتاج شخصياً هذه الفترة لأفهم وأستوعب تفاصيل الملف وخلفياته الدقيقة. أنّ ملف حوض النيل ملف ضخم يحتوى على عدد هائل من الوثائق والمستندات، تشمل محاضر اجتماعات خبراء دول حوض النيل فى الفترة (1997-2005)، ومحاضر اجتماعات اللجنة الفنية لمبادرة حوض النيل من (1999-2009)، وهى اللجنة التى كانت تعد وترتب تفاصيل أجندة اجتماعات وزراء دول الحوض، ومحاضر اجتماعات وزراء دول حوض النيل (1997-2009)، ومحاضر اجتماعات وزراء دول الحوض النيل الجنوبى، ومحاضر اجتماعات وزراء دول حوض النيل الشرقى، والمكاتبات من وإلى وزراء دول حوض النيل، وملفات المشاريع وبرامج المساعدات المصرية فى دول الحوض، وتقارير الهيئة الفنية المشتركة مع السودان، ومحاضر اجتماعات اللجنة العليا لمياه النيل فى مصر، ومحاضر اجتماعات اللجنة الوطنية القانونية فى مصر، وجميع مذكرات الصادر والوارد من وإلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء المعنيين بهذا الملف، وجميع المعاهدات التاريخية، والتقارير السيادية، وغيرها من الدراسات التاريخية عن التعاون والصراعات فى حوض النيل، بالإضافة إلى الخبرة المكتسبة من الاجتماعات مع الوزراء الأفارقة، وممثلى الجهات الدولية والخبراء والفنيين.
وبدأت أحداث المكاشفة بعد انتهاء اجتماع وزراء مياه دول الحوض فى شرم الشيخ فى أبريل 2010، وبعد فشل التوصل إلى توافق حول اتفاقية عنتيبى، إذ بدأ أحد الوزراء المعنيين بالملف محاولة التنصل من فشل مفاوضات حوض النيل والتنازلات السابقة، والعمل على نشر إشاعات بأننى كنت متكبراً ومتعنتاً فى المفاوضات، وأنّ هذا هو السبب فى الفشل، وتسربت بعض هذه الإشاعات إلى وسائل الإعلام وقتها. وبالرغم من علمى بما كان يجرى، فلم أهتم أو أحاول أن أدافع أو أرد على هذا الهراء، فقد كان رأيى دائماً أنّ المنصب السياسى له احترامه وقدسيته ومحدداته. ولكن لم يرضَ رب العباد بذلك، فبعد اجتماع شرم الشيخ بأسابيع، وفى أحد اجتماعات اللجنة العليا للنيل، قال السيد رئيس مجلس الوزراء، ورئيس اللجنة فى كلماته أثناء الاجتماع «ما حدش يجيلى تانى يقوللّى إن الوزير فلان متكبر أو متشدد مع الوزراء الأفارقة، وأنّهم علشان كدة وقعوا اتفاقية عنتيبى، خلاص الأمور كلها وضحت والدول دية بالفعل عايزين حصص مائية من النيل خصماً من حصتى مصر والسودان، وأضاف أن «زيناوى» نفسه أكد ذلك وطالب بإعادة توزيع الحصص المائية للنهر، وقال أيضاً «زيناوى» إنّ اتفاقية عنتيبى عندنا مقابل اتفاقية 1959 عندكم أنتم والسودان. وبعد هذا الاجتماع ظهر زيناوى فى التليفزيون المصرى مستهزئاً بالمصريين المطالبين بالحفاظ على حصة مصر المائية واصفاً إياهم بأنّهم رجعيون ومغيبون من أيام حقبة الاستعمار، ومطالباً بحوالى 10-15 مليار متر مكعب من النيل لإثيوبيا، زاعماً أنّ مصر تهدر هذه الكميات فى زراعاتها التقليدية.
بعد اجتماع شرم الشيخ، كانت كل الدلائل والأحداث تتطلب توثيق الأحداث بتفاصيلها للأجيال المقبلة، فقمت بنفسى بإعداد مذكرة تفصيلية عن أحداث مبادرة حوض النيل ومفاوضات اتفاقية عنتيبى خلال فترة (1997-2010)، مدعمة بالوثائق من محاضر اجتماعات وخطابات ومذكرات متبادلة. وتضمنت هذه المذكرة تدرج سير المفاوضات والتى بدأت بتمسك الخبراء المصريين بالحقوق المصرية، ثمّ تنازلات متتالية فى اجتماعات الوزراء فى الفترة (2006-2008) وحتى انتهى بنا الحال باتفاقية لا تعترف بالاتفاقيات التاريخية ولا بالحقوق والاستخدامات المائية لكل من مصر والسودان، بل تنص صراحة على حق دول المنبع فى حصص من مياه النيل، ولا تشمل بنداً واحداً ينص على استقطاب فواقد النهر وزيادة إيراده المائى لصالح جميع دوله، بل تحظر المساس بالبرك والمستنقعات المصدر الرئيسى للفواقد الهائلة من مياه النهر. والاتفاقية لا تشمل الإجراءات التنفيذية للإخطار المسبق وتسمح بتعديل العديد من بنودها وملاحقها بأغلبية أصوات الأعضاء بدلاً من توافق الآراء حسب ما هو معمول به فى الاتفاقيات الدولية المماثلة. وفوق ذلك كله كانت موافقة الوزير السابق على طلب البنك الدولى بحذف النص الخاص بالمحافظة على الحقوق المائية المصرية من الاتفاقية. وبعد انتهائى من إعداد المذكرة، تقدمت بطلب لانعقاد جلسة للجنة العليا لمياه النيل. وفى هذه الجلسة قدمت لكل عضو نسخة من المذكرة مع ملف بالوثائق كاملة، وساد الوجوم على الوجوه، وكان حاضراً هذا الاجتماع العديد من رموز الدولة فى ذلك الوقت رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الخارجية ووزيرة التعاون الدولى ووزير الإعلام ووزير مجلسى الشعب والشورى ووزير الرى ومدير المخابرات العامة وبعض المساعدين. وقمت بشرح الأحداث تفصيلياً. وبعد أن انتهيت من العرض كان هناك نوع من الاندهاش للبعض والانزعاج للبعض الآخر من دقة التفاصيل وتسلسل الأحداث والتنازلات والأخطاء المصرية السابقة. وكان من أطرف التعليقات على هذه الجلسة، ما جاء على لسان صديق مشترك لى وأحد الوزراء الذين حضروا الاجتماع، حيث قال له هذا الوزير إنّه لم يرَ فى حياته مثل هذه الجرأة من قبل وليس متأكداً أنّها جرأة أم غشوميّة، وأنّه لا يتصور كيف قمت بكشف أخطاء قد شارك فيها معظم الحضور من رموز الدولة، فقلت للصديق المشترك أنا أشك أنّ الأغلبية كانت تعلم بالتفاصيل التى قمت بالكشفت عنها فى الاجتماع. ولكن كان هذا الوزير على حق، فلم تمضِ أيام معدودة على هذا الاجتماع، إلّا وبدأت تداعيات هذا الاجتماع تهل ببشائرها، ولنا تكملة.
وآخر أخبار نجع الهنود الحمر، أنّه كانت هناك ضجة ما لهاش أى لازمة حصلت فى المؤتمر الصحفى الذى نظمه أحد كبار المسئولين فى الدولة ليشرح أبعاد قضية سد النهضة وموقف الحكومة المصرية منّها وكان قد ألقى خطبة عصماء ختمها بالجمل التالية: «أحب أن أؤكد لكم أنّ الحكومة تعطى ملف سد النهضة أهمية كبيرة، وأنّها تدرك تماماً مخاوف الشعب من السد، وأنا أكرر للشعب المصرى اطمئن.. اطمئن الملف فى أيدٍ أمينة». فقاطعه الصحفى الأحمر قائلاً: «أمينة مين اللى تنفع مع الأحباش يا باشا، دول لو جبيتلهم سى السيد نفسه كان داخ معاهم»، وانفلت الجميع فى الضحك وغادر المسئول القاعة غاضباً، وبعيداً عن السد الحبشى ومشاكله وهمومه، يبعث كبير الهنود الحمر بأحر تهانيه إلى الرئيس السيسى والشعب المصرى بمناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة، ويرسل قبلاته لتطبع على يد كل وطنى مخلص ساهم فى إنجاز هذا المشروع المصرى العظيم. من حقنا نفرح يا مصريين بهذا المشروع العملاق الذى يمثل أجمل هدية من مصر المحروسة إلى شبابها وإلى أجيال المستقبل وإلى العالم كله، وتحيا مصر، تحيا مصر، وحفظ الله شعبها العظيم.