لا جدال أن افتتاح المرحلة الأولى من مشروع تنمية محور قناة السويس، الذى يتجسد فى بدء تشغيل القناة الجديدة بعد أن تم ازدواج مسارها فى مسافة تزيد على ثلاثين كيلومتراً وتعميق غاطسها، وسط ترحيب عالمى بالغ تقديراً لدور مصر فى خدمة التجارة الدولية، يمثل علامة بارزة على مسار العمل الوطنى المصرى، ليس فقط لأن المشروع سوف يتيح الفرصة لأى سفينة عالمية مهما بلغ غاطسها أو حجم حمولتها أن تعبر القناة فارغة أو مملوءة فى الاتجاهين، فى وقت أقل وبدرجة أمان جد عالية تزيد قدرة القناة على استيعاب سفن جديدة، يمكن أن ترفع دخلها إلى حدود تزيد على أكثر من عشرين بالمائة، ولكن لأنها تجعل منافسة قناة السويس من خلال أى مشروع آخر يصل البحرين الأحمر والأبيض أمراً يكاد يدخل فى دائرة الاستحالة، بحيث يمكننا القول إن قناة السويس بمشروعها الجديد أصبحت خارج المنافسة الدولية لا يستطيع أى مشروع آخر أن ينافسها أو يحقق الميزات التى تحققها، بل لعل الأهم من ذلك أن غاطس القناة أصبح العامل الرئيسى الذى يحكم صناعة السفن فى جميع ترسانات العالم كى تستفيد من وفرة التكاليف فى رحلتى الذهاب والعودة.
وأظن أن الأمر أكبر وأضخم كثيراً من زيادة عائدات القناة بنسبة عشرين فى المائة أو تزيد، لأن المشروع ينطوى على أهداف ومعان كثيرة بالغة العظمة، تجعله جزءاً من الملحمة التاريخية لنضال الشعب المصرى على طول تاريخه الحديث، شأنه شأن السد العالى وشأن حدث العبور العظيم وشأن عبور مياه النيل لأول مرة إلى أرض سيناء، حدث فارق وتاريخى بكل المعانى، يكشف صلابة هذا الشعب وقوة عزيمته ووضوح فكره ورؤاه، تجتمع فيه لأول مرة ميزات عبقرية عديدة يصعب أن تتجمع فى مشروع واحد، تجعله بالفعل أول مشروع تنمية وطنية عملاق ينهض على أكتاف الشعب المصرى الذى نجح فى تمويله من خلال مدخراته الشعبية دون حاجة إلى معونات الآخرين أو قروضهم، ولعلها المرة الأولى فى تاريخ الأمم الناهضة التى تشهد خروج كل فئات الشعب المصرى وفى مقدمتهم الطبقات الأقل قدرة، يتزاحمون على البنوك المصرية على امتداد سبعة أيام، تمكنوا خلالها من تقديم ما يربو على ثمانين مليار جنيه، إسهاماً شعبياً كاسحاً فى تمويل المشروع، لأن الشعب المصرى أدرك بفطرته الذكية أنه مشروع وطنى ضخم ينبغى أن يشارك فيه الجميع ثقةً فى نجاحه، وحماساً لنداء رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى الذى استجابت له جموع الشعب المصرى بصورة أدهشت العالم، وأكدت إصرار المصريين على نجاح ثورة يونيو وإيمانهم العميق بصدق إرادتهم السياسية الجديدة.
والأمر المؤكد أن اختصار مدة التنفيذ فى عام واحد لا يزيد يوماً واحداً بدلاً من ثلاثة أعوام، والالتزام الصارم ببرامج الحفر والتكريك، ورفع آلاف الملايين من أطنان الرمال الجافة والمشبعة بالمياه من مواقع الحفر والتكريك، وتجهيز القناة للملاحة الدولية فى ساعة محددة من يوم السادس من أغسطس عام 2015، يؤكد قدرة الإدارة المصرية على تجاوز مشكلات البيروقراطية المصرية وتحقيق الانضباط ودقة الأداء فى سيمفونية عمل متكاملة، جمعت عشرات الآلاف من المعدات الثقيلة وضمت أكبر أسطول تكريك عرفته الأعمال البحرية العالمية، وشارك فيه مئات الآلاف من العمال المصريين فى تخصصات عديدة، شكلوا فريق عمل ناجح يصر على تنفيذ برنامج العمل فى موعده المحدد بحماس وطنى بالغ، يؤكد المفارقة الواسعة بين عملية حفر القناة فى بداياتها الأولى على أيام الخديو إسماعيل التى اعتمدت على السخرة وتجنيد المصريين غصباً للعمل فى ظروف جد قاسية ودون أجر تحت سياط وكرابيج الملاحظين الأجانب، وعملية حفر القناة الجديدة التى تميزت بحماس العاملين وفخارهم البالغ، بينما يتواصل توافد المصريين على منطقة القناة يتابعون الحدث يوماً بيوم، يحيون العاملين فى المشروع ليزداد فخارهم بوطنهم وشعبهم وهم يرون الحلم يتحقق على أرض الواقع.
وما يزيد من قيمة هذا المشروع ويجعله جزءاً من فخار مصر الوطنى أن المشروع يخدم العالم أجمع، ويعطى دفعة قوية للتجارة الدولية ويختصر متاعبها وتكاليفها، ويعزز تواصل الشعوب وينمى مصالحها المشتركة، ويزيد فرص السلام العالمى وتبادل المنافع بين الدول، ويسهم فى إثراء تواصل الثقافات والحضارات، ويجسد وظيفة مصر الجغرافية همزة وصل بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، ويعزز دروها اللوجستى فى هذا الموقع العبقرى الفريد.. ولعلها المرة الأولى التى تنجز فيها مصر مشروعاً اقتصادياً عملاقاً يحسن استثمار موقعها الجغرافى لصالح شعبها وشعوب العالم أجمع تأكيداً على أن مصر قوة سلام وبناء وحضارة، ولهذه الأسباب يشكل مشروع تطوير محور القناة نموذجاً صحيحاً لمشروع وطنى عملاق، نجح الشعب المصرى فى تخطيطه وتمويله وتنفيذة اعتماداً على نفسه، بما يزيد من ثقة المصريين فى قدرتهم على بناء مشاريع ضخمة تعالج مشكلات الطاقة والعمالة، تقوم على مساهمات شعبية يجنى المصريون ثمارها وتحقق مصالح الوطن العليا.
والحق أن نجاح المشروع فى تحقيق كامل أهدافه سوف يظل معلقاً على حسن استثمار المحور الاستراتيجى الذى يقوم على مدن رئيسية ثلاثة، بورسعيد والإسماعيلية والسويس، تكاد تكون معلقة فى فراغ سكانى موحش، يتمثل فى صحراء سيناء شرق القناة وامتدادها غرباً إلى سهل الصالحية جنوب الإسماعيلية، عبر أرض خلاء شاسعة تمتد إلى حواف مدينة القاهرة، فى منطقة حيوية يمكن أن تصبح معموراً اقتصادياً ضخماً، يضم مناطق صناعية متخصصة وزراعات حديثة متقدمة للتصنيع والتصدير، ومزارع سمكية ضخمة، ومجتمعات عمرانية تملأ الفراغ السكانى الموحش، ومحطات لوجستية تصل موانى المنطقة الثلاثة بورسعيد والسويس والسخنة بدول شمال أفريقيا وصولاً إلى جنوب أوروبا كما تصلها بعمق القارة الأفريقية ومنطقة شرق المتوسط، حلم ضخم وكبير لا نزال على أول عتباته، ولهذا فإن تشغيل قناة السويس الجديدة بعد توسيعها وازدواجها يشكل مجرد نقطة البداية فى مشروع إنمائى ضخم يجعل منطقة شرق القناة فى سيناء وامتدادها الصحراوى غرب القناة وصولاً إلى سهل الصالحية والمدن الثلاث السويس وبورسعيد والإسماعيلية كلاً واحداً يزيد الترابط بين أرض سيناء ووادى النيل، وينشر العمران فى هذه المنطقة الشاسعة التى تصل إلى حواف القاهرة لتصبح ظهيراً قوياً لأمن مصر وأمن سيناء.
ويكاد هذا المشروع يكون الرد الاستراتيجى الصحيح الوحيد على نجاح الإسرائيليين فى حصار مدينة السويس عندما توسع الجيب الإسرائيلى غرب القناة فى حرب 73 ليشكل تهديداً لأمن العاصمة، ألزم الرئيس السادات بقبول مباحثات «الكيلو 101» رغم النجاح الضخم الذى حققه العبور المجيد، ولو أن الساحة الخلاء بين خط القناة بمدنه الثلاث وحدود القاهرة تحولت إلى مناطق عمرانية مأهولة تستثمر قربها الجغرافى من محور القناة لكانت بمثابة حائط صد قوى يعزز أمن مصر الاستراتيجى.
لقد كنت أفضل ومعى كثيرون أن يكون احتفال المصريين بقناتهم الجديدة احتفالاً وطنياً شعبياً بأكثر من أن يكون احتفالاً عالمياً أسطورياً يعيد مشاهد افتتاح القناة على عهد الخديو إسماعيل، ويتكلف ثلاثين مليون دولار جميعها من تبرعات الشركات العاملة فى المشروع لكنها يمكن أن تخدم أهدافاً أخرى، خاصة أن الفرق شاسع بين عمل يتم تحت السخرة يستشهد فيه عشرات الآلاف من المصريين لأنهم افتقدوا العيش والمعاملة الكريمة، وبين عمل طوعى يمارسه العمال المصريون وهم فخورون بوطنهم.. وكنت أرجو لو أن حجم استعراضات القوات المسلحة بكل أفرعها فى هذه المناسبة كان أقل كثافة؛ تعبيراً عن حرص مصر على سلام المنطقة والعالم وتأكيداً على مدنية الدولة المصرية ووظيفة القناة الجديدة فى خدمة التجارة الدولية والسلم العالمى، لكن يبدو أن الظروف الأمنية والرغبة فى تحقيق أقصى معدلات الأمن لهذا الحدث التاريخى فرضت ضرورة وجود القوات المسلحة المصرية على هذا النحو الكثيف بما يضمن أمن الاحتفال وسلامته، ومد مظلة الحماية إلى كل ضيف يحضر هذه المناسبة التى سوف يشهدها عدد غير قليل من قادة العالم.