قبل استئناف هذه السلسلة عن «برلمان إسماعيل»، أهنئ نفسى مع أغلبية المصريين بافتتاح ازدواجية الخط الملاحى لقناة السويس بعد يومين بإذن الله.. وهو إنجاز لمصر قبل أن يكون إنجازاً للسيسى (وهو ما لا يعيه للأسف بعض معارضى الرجل)، وإن كان الأنصاف يقتضى إعطاء الرجل حقه فى الإشادة باعتباره صاحب الفكرة والمساند لها والمتابع بدأب لتنفيذها إلى أن تحولت إلى واقع.. ويأمل كل من يحسنون الظن بالرجل أن يكون مشروعه التالى مباشرةً لافتتاح توسعة القناة هو ترسيخ دولة مدنية ديمقراطية حقيقية.. ذلك الحلم الذى كان أقرب ما يكون للتحقيق صباح 12 فبراير 2011 ثم تبخّر رويداً رويداً على مدى السنوات الأربع إلى أن كاد يتلاشى.. فالديمقراطية هى الضامن لاستمرار الإنجازات وعدم تبديدها، تلك هى عبرة التاريخ.. ولعل تاريخ «إسماعيل» خير شاهد على ذلك، فقد تحقق فى عصره عدد من الإنجازات العمرانية المبشرة، تبددت كلها واحداً تلو الآخر بسبب دكتاتوريته المطلقة واتخاذه القرارات المصيرية فى غيبة تامة لرقابة الشعب أو محاسبته.
تم افتتاح مجلس شورى النواب يوم الأحد 25 نوفمبر 1866 بالقلعة برئاسة إسماعيل راغب باشا الذى عيّنه الخديوى.. واستكمالاً للشكل تُليت خطبة العرش التى كانت تسمى (مقالة الافتتاح) وتشكلت لجنة لإعداد الجواب عليها، وقد صيغ الرد فى قالب تمجيد وتقديس للذات الخديوية يكاد يقترب من العبودية.
انتهى دور الانعقاد الأول دون أى أثر لهذا البرلمان الوهمى، ولكن مع افتتاح الدور الثانى بعد عامين تحركت نفوس بعض النواب على استحياء لاستطلاع حقيقة الوضع المالى الذى كانت أسراره محجوبة عن البرلمان، فألفوا لجنة ثلاثية لدراستها وتقديم بيان عنها للمجلس، وقد توجهوا إلى وزارة المالية ثم عادوا وأفضوا ببيانات غير صحيحة عن ديون الحكومة تلقوها من إسماعيل باشا صديق وزير المالية الذى كان معروفاً عنه أن كل ما يذكره من أرقام مبنى على الكذب والتضليل، وقد ذكروا أن ديون الحكومة نحو سبعة ملايين جنيه (وثبت فيما بعد أنها أكثر من أربعة وثلاثين مليون جنيه).. شكّل المجلس لجنة أخرى لاقتراح الوسائل الكفيلة بمعالجة الحالة المالية، فقدمت تقريراً هزلياً موعزاً به من الحكومة اقترح زيادة الضرائب على الأطيان وعقْد قرض جديد، قال وزير المالية للمجلس إنه سيكون خمسة ملايين لسداد الباقى من ديون الحكومة، فوافق النواب.. وقد بلغ من استهانة الحكومة بالمجلس أنها اقترضت سراً من خلف المجلس قرضاً خارجياً من بيت «أوبنهايم» المالى قيمته نحو اثنى عشر مليوناً (وليس خمسة) ولم يخصص منه شىء لسداد الديون السابقة إنما ابتلعته سياسة الإسراف (وهل نتوقع غير ذلك من أى مجلس تصنعه الحكومة على عينها؟!).
استمرت الفترة النيابية الأولى على هذا المنوال، وتلاها دور الانعقاد الثانى متأخراً عن موعده بأكثر من ستة شهور دون إبداء الأسباب.. ثم توقفت الحياة النيابية عامى 1874 و1875 دون إبداء الأسباب أيضاً ودون أن يعترض النواب أو يستفسروا، مع أن ما حدث خلال هذين العامين من أحداث جسام كان يستوجب عقد المجلس، إذ عقدت الحكومة قرضها الأكبر المشؤوم ثم باعت أسهم مصر فى قناة السويس يثمن بخس (أربعة ملايين) ثم وقع التدخل الأجنبى الذى كان مقدمة للاحتلال.
وللحديث بقية بإذن الله.