عند باب المسجد ودّع زوجته وبناته ليدخلن مسجد النساء، ودخل مع أبنائه الثلاثة إلى المسجد.. جلسوا فى هدوء وسكينة ورائحة عطرة.. ابنه الصغير أخذ يلعب فى المسجد فى حين كان القارئ يقرأ بتأثر: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا...}.
ظل الرجل يتفكر فى الآية وما بعدها، تأمل قوله تعالى {... وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103).. قال لنفسه: آه من أحوال المسلمين اليوم، فقد تفرقنا ومُزِّقنا وأصبحنا فى فُرقة أكثر من فرقة الجاهلية الأولى ونسينا نعمة الأخوة فى الله.
سرح خياله متعجباً من أحوال العراق وسوريا واليمن وليبيا، فالسنى يقاتل الشيعى، و«داعش» يحارب الأكراد، والأكراد يهجِّرون ويذبحون العرب، والميليشيات الشيعية والحشد الشعبى يذبحون السنة ويفجرون مساجدهم، و«داعش والقاعدة» يفجران مساجد الشيعة.
حاول أن يطرد من خاطره فكرة تفجير المساجد التى ألحت على عقله فجأة.. جاءته خاطرة غريبة أن يهاتف زوجته ويأخذ أسرته كلها ويغادر المسجد.. استعاذ بالله من الشيطان الذى وسوس له.. أذن المؤذن وصعد الخطيب المنبر.. ذكرهم بهتاف النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمته: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».. و«المؤمن من أمنه الناس».. وذكرهم بأن العالم كله يتوحد إلا بلادنا.
قال لهم: كيف يذبح «داعش» الأكراد المدنيين ويهجرهم من بلادهم؟!
وكيف تذبح الميليشيات الشيعية والحشد الشعبى أهل السنة؟!
وكيف يذبح الأكراد العرب ويطردونهم من قراهم وبلادهم؟!
وكيف يذبح داعش قادة جبهة النصرة؟!
وكيف يتقاتل كل الأشقاء فى ليبيا واليمن؟!
تهدج صوته وهو يتحدث عن مآسينا.. بكى الخطيب وهو يذكر الحديث الشريف «إن فساد ذات البين هو الحالقة.. لا أقول تحلق الرأس ولكن تحلق الدين».
ازداد بكاؤه وهو يذكرهم بقوله تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً...} (النحل: 92).
بالقرب من مسجد «الإمام الصادق» كان هناك داعشى يتحاور مع صديق، حاول أن يشركه معه فى تفجير المسجد قائلاً له: لا بد من إخراج الشيعة من جزيرة العرب.. قال: ولماذا يخرجون منها وهم يعيشون فى سلام مع إخوانهم السنة منذ آلاف السنين ولهم كل الحقوق.. إنها بداية الفتنة التى لن تكون لها نهاية.. وإذا كان الإسلام سمح لغير المسلمين بحقوق المواطنة أفلا يجيز ذلك للمسلمين الذين يختلفون فكرياً أو عقائدياً معنا؟
وهل من الإسلام إخراج الناس من ديارهم بغير حق؟!
قال الداعشى: ولكن النظام الشيعى فى إيران يظلم السنة هناك ويمنعهم حقوقهم.. ونظام المالكى من قبل والحشد الشعبى وميليشياتهم الآن يقتلون السنة ظلماً.
قال: ولماذا تريد أن تقلدهم فى الظلم.. وهل الله أمر بالعدل أم بالظلم.. وما دخل الشيعة فى الكويت أو السعودية بشيعة العراق وإيران؟!
قال الداعشى: كلهم شيعة.
قال له: هذا منطق مغلوط؛ كل إنسان مسئول عن نفسه فحسب.. وإذا كان ليس مسئولاً عن فعل أبيه ولا ابنه فكيف يكون مسئولاً عن فعل حكام وأنظمة وميليشيات وجماعات.. ألم تقرأ يا أخى قوله تعالى «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، وقوله «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ».
غضب الداعشى: العنف لا يرد إلا بالعنف.. وتفجير المساجد يرد عليه بمثله.
أجابه صديقه: يا أخى كل المساجد لها حظ من قوله تعالى: «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناًً» فهى ليست خاصة بالمسجد الحرام فحسب، بل كل المساجد.. كما أن الإسلام نهى عن قصد أماكن العبادة للمسيحيين واليهود وغيرهم من الملل بالأذى فى حالة الحرب مع المسلمين فكيف بالمساجد.. وكيف بالتى يقطنها مواطنون أبرياء من المسلمين وفيها أطفال ونساء؟!
كاد الصديق أن يبكى وهو يردف: كيف ترد الظلم بظلم أكبر، وتقتل أبرياء؟.. إن بدعة تفجير المساجد والمعابد هى أخطر فتنة فى تاريخ المسلمين كله.
قال له الداعشى: لا بد من التمايز بيننا وبين الشيعة.
رد عليه: إن الله خلق الناس مختلفين فى كل شىء ليتعارفوا لا ليتقاتلوا أو يتصارعوا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...} (الحجرات: 13).
أظهر الداعشى القناعة الظاهرة فسعد صديقه بجهده الفكرى الذى أثناه عن جرمه ولم يدرك أن الداعشى يقلد ميليشيات الشيعة فى استخدام «التقية».. فعبأ سيارته بالمتفجرات ثم مضى إلى مسجد «الإمام الصادق» بالكويت وانتظر حتى صعد الخطيب المنبر.
وبينما الخطيب فى غمرة حماسته وعاطفته إذا بصوت انفجار ضخم يهز المسجد والجدران تتداعى والأسقف تتهاوى.. وإذا بالمصلين فى كرب شديد.. بعضهم لا يقدر على الحركة وآخرون ألجم الموقف ألسنتهم.. وبعضهم أصابه الذهول.. وآخرون مضرجون بدمائهم.. وبعضهم يلفظ أنفاسه.
وبين آهات الجرحى ورائحة الموت والدخان والغبار والنيران تسمع واضحاً صراخ آباء يبحثون عن أبنائهم وأمهات ينادين على بناتهن وأولادهن.. اختلط الحابل بالنابل، والرجال بالنساء وكأنه أشبه بهول يوم القيامة.
تأخر الإسعاف.. وحينما جاء بدا مرتبكاً لا يعرف كيف يتصرف فالكارثة أكبر منه.. ولولا مساعدة أهل المنطقة وشباب المصلين لما مرت اللحظات بسلام.. تدفقت بعد ذلك كل الأجهزة الحكومية.
هلل «داعش» للانفجار، كرر فى بيانه فكرته الغبية «إخراج الشيعة من جزيرة العرب».. لم يتعلم من طرح القاعدة الغبى السابق «أخرجوا الكفار من جزيرة العرب».. وكانوا يقصدون أمريكا وأوروبا والغرب وقاموا بتفجيرات كثيرة منها تفجير الرياض وكلها أصابت المدنيين ومعظمهم مسلمون.. ولم يخرج الغرب من جزيرة العرب ولكنهم احتلوا العراق بعد أفغانستان ووطدوا نفوذهم فى كل بلاد العرب.
أما «داعش» فهو أكثر غباءً وحمقاً من القاعدة وهو السبب فى معظم مآسى السنة لأنه مثل الدبة التى تقتل صاحبها وهى تريد أن تطرد الذباب عن وجهه.. وكلما أراد الدفاع عن السنة دمرهم وأهلكهم.
خرج مذيع النشرة ليقول إن بدعة تفجير المساجد بدأت فى العراق مع «الزرقاوى» ثم قلدتها ميليشيات الشيعة ثم امتدت منها إلى باكستان ثم الخليج.. ختمت النشرة بأغنية «أمجاد يا عرب أمجاد»، تبعتها قصيدة «ملعون يا سيف أخى».