استيقظت رحمة والشمس توشك أن تعلن انطلاق الصباح، تقطن في حي لا ترى نظير له في التلفاز، قالت أمها إن بعض المسلسلات يصورون في الأحياء الفقيرة لينقلون واقعنا، أتمت العقد الأول ولم تر بعد ذلك الواقع الذي يجعل شارعهم يبدو في انفصال عن مصر التي تُحّي علمها في طابور الصباح ويتحدث مدرس اللغة العربية عن ضرورة حب تراب الوطن، تقطن في بيت يزكم التراب الأنوف وتعبق الشوارع روائح كريهة لا تستطيع معها صبرا، تضطرك إلى المرض والذهاب إلى المستشفيات لتعرف أن مرضاً تنفسياً قد لازمك أو أن معدتك ستحاول التكيف مع ما طرأ عليها. "صباح الخير يا بابا، لحد دلوقتي حاسّة إن العيد مجاش" قالت رحمة لأبيها الفواعلي. سألته يوماً عن معنى عمله، بعد أن استهزأ معلمها بالسؤال. لم يجب. في ليلة مرت من طريق مختلف أثناء ذهابها للمدرسة، رأت أناس يفترشون الأرض، كل ممسك بآلة معدنية قوية تمكنه من تكسير ما عنّ له من طوب. ظنّتهم فتوات ذاهبين إلى معركة، لاسيما حين لمحت ثمة رجل في سيارة فارهة يتفّق مع أحدهم على ركوب سيارته. كان ذلك الواقف أبيها. يومئذ توقفت عن سؤاله عن المعنى.
"ايه رأيك يا رحمة لو نركب مركب مع إخواتك بليل؟".
"بابا إنت ليه سمتني رحمة؟"
منذ جاءت إلى الدنيا لا تعرف إلا السؤال، وهو لا يعرف إلا الصمت في حرم الإجابات المستعصية. لف الجو من حوله غلالة ذهبت به إلى يوم ولادتها، كان حزيناً لعدم رزقه بولد ثالث. يخشى خلفة البنات لا بوازع العار التي تجلبه، لكن بما ستنوء به من أسئلة وعدم قدرة على مساعدة في جلب لقمة العيش. قال إن سميتها رحمة، لعلها تكون رحمة الأسرة كما النبي رحمة العالمين. لماذا لم يخبرها كل ذلك؟. "سميتك رحمة عشان دي اسم البنت اللي كنت بحبها قبل أمّك" هكذا أجاب. تجمّعت الأسرة وذويهم في حارتهم الضيقة والشمس تعلن رحيلها اليومي. خرجوا في زرافات للكورنيش، رحمة تمسك في يد أبيها، حاول أن يدفعها إلى البنات من سنها الذاهبين للتنزه بعد أن انطوى زحام العيد دون جدوى، ثمة قريب يعمل على مركب سعر النفر فيه جنيهات ثلاثة، في مشيهم لمحت رحمة كتابة باهتة على حائط الشارع "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". تمر كل ليلة على نفس الكلام، كانت ستسأل عن سبب بهتان الكلام وعدم عودة من خطه، لكن الأب كان مشغولاً بتنظيم الاحتفال على سطح المركب، كان عمها يقول إنهم في الحارة لديهم قدرة فائقة على الرضا، يشاهدون في فواصل المسلسلات الإعلانات عن السواحل والقرى، هم فرحين فرحة لا تقل عن الماكثين الآن منعمين برمال البحر. "الفرحة متساوية، المهم الرضا". صعدوا إلى المركب الذي اهتز بفعل الثقل الجديد وجريان النهر. انطلق صوت المهرجانات عالياً، صفق الآباء، رقص الأبناء، ضحكت الفتيات، ذهلت رحمة، فكرت في ذهنها المشغول الذي لا يشعر بالرضا الذي يتحدث عنه عمّها. أضواء مبهرجة على سطح المركب انعكست على سطح النيل الأسود، المياه في الليل كابية، حركات بهلوانية يقوم بها الأطفال، رقصات على استحياء تؤديها الفتيات، صوت القهقهة يعلو، المركب يتمايل، المهرجان بطبوله تقرع، المركب يسير، رحمة تبتسم لوالدها، المركب يهتز في عنف، الغناء يُخرس، الرجال يصرخون، الأطفال يتمايلون، الفتيات يتشنجن، النساء يولون، رجة أعنف، المركب ينقلب، الأجساد تختلط، الأب ينادي على رحمة، لكنها كانت قد استقرت في باطن النيل، كعروس توقفت عن إبداء الأسئلة.