تمر أشهر قليلة على عودتى للوطن، أفوز خلالها بالمركز الأول بالتمثيل على المسرح الجامعى وأكوّن الكثير من الصداقات الطيبة، بعدها تأتى عطلة الصيف لأستقبل أسرتى حيث كان التوأم أسامة وأحمد يستعدان لدخول الجامعة، وفى المطار أهدانى أبى هدايا ثمينة مبالغاً بها قائلاً: (أنتِ تستحقين تاجاً ذهبياً جزاء بنوتك المشرفة وصراحتك وأخلاقك)، وشكر الله على ثمار التربية السليمة، كانت تلك المكافأة على تحمل مسئولية نفسى لأول مرة بحياتى وأنا التى لم تخرج يوماً خارج المنزل ذى رائحة التفاح، ورداً طيباً تشجيعياً على وفائى بوعدى له بأن يكون مطلعاً على جميع أخبارى.
مرت العطلة الصيفية غريبة يغلب عليها الضجر والملل وأتى موعد عودة أبى للبحرين ليتسلم موقعاً جديداً فى مؤسسة كبرى هناك، ولكنه شعر بتوعك مفاجئ أجّل على أثره موعد سفره ليومين، وخلال اليومين اشتد عليه ألم بالمعدة فذهب برفقة أمى إلى المشفى، ومرت ساعات ثقيلة قليلة لكنها أثقل من الهم، ذهبت للصلاة لتخفف عنى القلق ونطق لسانى كلمة أنّبت نفسى عليها كثيراً، قلت: (اللهم ارحم أبى)، وضعت يدى عَلى فمى ندماً على دعوة تُقال للموتى، وفوراً تذكرت رؤية مفزعة منذ أيام بأننى أفقد أبى، ووصلت السيارة ونزلنا أنا وأخوتى على الدرج لاستقبال أبى وأمى ولكن نزلت أمى وحدها دون أبى، سألتها أعيننا عن ضوء عيوننا فأجابت: لقد مات!!!!!
أيموت أبى كسائر البشر؟!! انهض أبى ما زال الكلام بيننا لم ينته، إنك لم ترد علىّ فى مسائل كثيرة؟! ما زلت صغيرة أبى وكذا أخوتى، أهكذا ينتهى كل شىء، ألن أراك ثانية، ألن تنادينى مرة أخرى، هل انتهى كل شىء؟! وخيم ظلام سخيف قاسٍ على منزلنا (بمصر)، وبعد أيام قليلة عدنا للبحرين لإنهاء متعلقات أبى ودخلنا للمرة الأولى منزلنا ذَا رائحة التفاح دون أبى!!
دلفنا من الباب بعيون وقلوب ذابلة، فتساقط على رؤوسنا ياسمين من شجرة زرعها هو كانت تغطى المنزل من الخارج، وفى حديقة المنزل بجوار الياسمين كانت شجرة المانجو قد بدأت فى الإثمار، ولكن فى الداخل لم تكن رائحة التفاح بالمكان ومكان صناديق التفاح كان فارغاً، فنحن للتو عدنا من السفر ولم يجلب أبى تفاحاته كالعادة بل لن يستطيع جلبها بعد اليوم.
أين رائحة التفاح، أين أبى، أين بهجة البيت وضحكته، أين الأمان والدفء والعطاء؟! أصبح المنزل ذو رائحة التفاح شاحباً حزيناً، وامتلأت الدنيا بعباءات سوداء وصوت القرآن وبخور العزاء والقهوة والأحباب يأتون بكثرة يبكونه معنا، تلقينا العزاء وأنهينا متعلقات أبى وعدنا أنا وأخواى التوأم لدخول الجامعة بمصر وبقيت أمى ونورهان لإكمال إجراءات أخرى ولإكمال نورهان دراستها بالبحرين، حيث استمرت أمى بعملها هناك وبقيتا فى المنزل ذى رائحة التفاح وحيدتين للمرة الأولى ولكن ليستا غربيتين، فالبحرين وطن ثانٍ لنا.
أما أنا وأخواى فلم يكن حالنا أفضل بل مررنا بأوقات هى الأصعب والأسخف لكن قوة وثبات أمى كانت درعاً دون تلك الصعاب ومرت الأزمة غارسة بِنَا أنيابها من دلال مفرط واتكال على الوالدين فى كل شىء لقمة المسئولية واختبار عالم آخر.
وجاء مندوب من عمل أبى ليتسلم أوراقه وملفاته من منزلنا وبالمثل ذهبت أمى ونورهان لأخذ متعلقات أبى من مكتبه الأنيق والجديد، لحظات هى الأقسى، (وقد خبرتها أنا قريباً فى وفاة زوجى رحمه الله، إنها لحظات قاتلة)، ثم عادتا للمنزل ذى رائحة التفاح وقد أصبح خالياً من الأرواح فحاصرتهما ذكريات أجمل السنوات، ومشاعر الحزن الخائف، فالمنزل كبير والألم أكبر، وقررتا أن تغلقا المنزل (ذو رائحة التفاح) وتستأجران بيتاً صغيراً فى الجوار لا تفاح به ولا جراح ولا يتحول الأحبة فيه إلى أشباح، وأُغلق المنزل وأغلقنا معه جميل الذكريات، أظن أن أرواحنا الطفلة ما زالت تلهو هناك، وأظن أن الجدران ما زالت تبكينا وتبكى أيامنا وليالينا.
عدت بعد سنوات اثنتى عشرة للبحرين فى زيارة إعلامية مرافقة لزوجى رحمه الله وكانت ابنتى زينة عمرها عامان، قابلت «غادة» واشتممت بها رائحة طفولتى وشبابى وباقى أصحابى واصطحبتنى صديقتى «أفراح» إلى جميع الأماكن التى أحببت زيارتها أولها كان مدرستى حيث وجدت إحدى مدرساتى القدامى ما زالت تدرِّس هناك، وزميلتى سمية أصبحت معلمة بنفس المدرسة، بل إن بعض التلميذات أقبلن يلاعبن ابنتى وسألننى فى براءة عن سبب بكائى فحكيت لهن أننى تركت بعضاً منى هنا.. وعلى القرب كان قلبى يدق بسرعة شديدة وبلهفة وخوف وشوق كأننى أرى حبيبى الأول، نعم كان هو.. (المنزل ذو رائحة التفاح) لقد رأيته مجدداً بعد أعوام، لقد تغيرت ملامحه تماماً، سكنه أناس آخرون وغيروا به الكثير، بكيت حتى أخفت ابنتى، فتوقفت وظللت أتأمله بحزن هو الأعمق، وعاد أخى أسامة بعدها بست سنوات أخرى ليلتقط لنا صوراً من كل ركن بالبحرين، ويرسلها لنا فورياً على الهاتف فتهتف قلوبنا بحب البحرين وبحب أيامنا الحلوة وبحب منزلنا ذى رائحة التفاح واستمر فى جمع الهدايا فقد طلبنا منه أشياء كثيرة أتى بها جميعاً.. إلا رائحة التفاح.... فقد ذهبت إلى الأبد.
وإلى اللقاء فى سلسلة مقالات جديدة.