أزمة عميقة فى صلب النظام السياسى وفى صناعة القرار والقانون وتسويقه وتوقيته كشفت عنها احتجاجات الموظفين، وعلى رأسهم موظفو الضرائب والجمارك، واعتصام أمناء الشرطة بالشرقية وإطلاقهم الرصاص رداً على محاولة الأمن المركزى فض اعتصامهم. الأزمة أن الجهتين السابقتين من أخلص وأطوع مؤسسات الدولة لها، ومن أجل تنفيذ أهدافها فى جنى المال وإخضاع المواطنين يتغاضيان عن مشاعرهما! ويتمتع موظفوها بدخل أكثر مقارنة بمن يماثلهم فى الدرجة الوظيفية والتعليمية فى جهات أخرى.وإذا كان هؤلاء كذلك مميزين، ولكنهم غير راضين ويطلبون المزيد ويحذرون من الاقتراب من مزاياهم فإن غيرهم الأكثر بؤساً ودخلاً -وبالبداهة- على أهبة الاستعداد للتحرك لتحسين دخولهم والمساواة مع دخول جيرانهم فى الوطن التى يسمعون عنها.مكانة الجهتين وضحت بلقاء رئيس الوزراء نفسه موظفى الضرائب والجمارك ومعه وزراء المالية والتخطيط وعدد من المسئولين (غالباً للبحث عن مخرج أشبه بمخرج الحد الأقصى للأجور) بعد وقفة احتجاجية ووصفهم فى غزل صريح (أنتم شرفاء مصر وخط الدفاع الأول عن اقتصاد البلاد).مثل هذه اللقاءات والتصريحات لم تحدث عندما أضرب خط الدفاع الأول عن حياة وصحة المصريين (الأطباء) لشهور بل وصفوا بما يسىء إليهم وما يؤلب عليهم المواطنين رغم أن راتب الساعى المعين حديثاً فى الجمارك بالإعدادية يدانى راتب طبيب معين حديثاً فضلاً عن ممرضة على وشك المعاش.وبعد شكر وزارة الداخلية للأمناء المضربين واعتزازها بهم فى بيان عام للشعب ونفى وقوع فعلهم تحت طائلة قانون التظاهر المحبوس به آلاف الفتيات والشباب، كرر رئيس الوزراء (نعتز بهم ونقدرهم ونحترم مطالبهم) وتعهد بتنفيذ مطالبهم، هناك تمييز واضح فى تعامل الدولة مالياً وأخلاقياً وقانونياً مع المواطنين، كما بدا فى المثالين السابقين المعبرين عن مميزين آخرين أرقى يأخذون قبل أن تتحرك شفاههم.الأطفال الأكثر تدليلاً وحظوة دون إخوتهم بسبب حب والديهم يشعرون أكثر بالاضطهاد ويغضبون ويطلبون المزيد رغم أنهم يأخذون بالفعل الأكثر.ومن الطرائف التى تدل على غير عدالة أن القاضى يتقاضى بدلاً للعلاج (3 آلاف ج) فيما يتقاضى الطبيب الأكثر عرضة للعدوى (19 ج)!يستند النظام غير العادل فى تفسير التفاوت إلى أن هناك جهات تدر دخلاً وجهات تقدم خدمات، وهذا يمكن قبوله لو كانت هذه مؤسسات خاصة ولكنها فى وطن واحد وتخدم شعباً واحداً ويملكها شعب واحد لا شريك له فى دخله، وهؤلاء القائمون على جباية المال أو توزيع الكهرباء أو الفصل فى القضايا بين الناس أو فى تنفيذ الأحكام لا يملكون لا درجات علمية ولا قدرات خاصة دون غيرهم فى الجهات التى تقوم على صحة الناس وتعليمهم مثلاً.لم يتفق المواطنون على هذه الطريقة فى توزيع الدخول بل فرضت عليهم ممن لم يختاروه أبداً بملء إرادتهم بل حكمهم من منطق القوة والاغتصاب وانتخابات مزورة منذ عشرات السنين، وكانت هذه وسيلته لخلق إقطاعيات لأتباعه وضمان ولائهم وتنفيذهم لأغراضه، وهو لهذا لا يعنيه العاملون فى جهات غير جهات الولاء ولا يحترمهم بل إنه لا يعنيه المواطنون الذين يستفيدون من تلك الجهات أبناء الجارية ولهذا تتدهور أحوالها إذ ينتقص دوماً من ميزانياتها كالتعليم والصحة.إن هذا لا يساعد فى إقامة مجتمع العدالة والسلام بل يؤلب فئات على أخرى، وهو هدف يخدم الاستبداد والحكم الأبوى السلطوى.توزيع الدخول هكذا يحقر من أعمال ويرفع أخرى دون منطق مقبول أو أسباب معقولة غير أنها منفعة للحاكم لا للشعب.