فى نهاية الأربعينات من القرن الماضى، كنت فى الصف الثانى من المرحلة الأولى الابتدائية، وكان معنا طفل يدعى مسعود القاضى، وعلى الرغم من صغر سنه، فإنه كان ذا خيال واسع وقدرة فائقة على تأليف الكثير من القصص والحكايات عن والده وأسرته، فقد زعم أن والده يعمل قاضياً، وأمه مفتشة بالتربية والتعليم، وأنها ذات مكانة عالية وسطوة كبيرة، وباستطاعتها أن تقيل هذا الناظر أو ذاك، كما أن أخاه الأكبر ضابط بوليس وله فى تعقب المجرمين والخارجين عن القانون بطولات ترقى إلى درجة الأساطير، أخبرنا «مسعود» أن والده القاضى خاض الكثير من المعارك ضد المجرمين والقتلة، بسبب أحكام الإعدام والمؤبد التى كان يصدرها ضد هؤلاء، وقد عينت له وزارة الداخلية ضابطين وثلاثة جنود كحراسة خاصة لحمايته، لا يفارقونه لحظة، فهم يوجدون معه أينما ذهب وأينما حل، مع ذلك، كان والده يحمل سلاحاً مرخصاً ليتمكن من الدفاع عن نفسه إذا ما تعرض لعدوان مفاجئ، كان «مسعود» من الخبث والمكر والدهاء بحيث أقنعنا -أو بمعنى أدق استحمقنا- بأننا إن لم نسدد له «إتاوة» يومياً حددها هو بنصف قرش، فسوف يستصدر حكماً من والده القاضى بحبسنا (هكذا)، كان قليل الهزل والمزاح، يتكلم بلهجة جادة وحادة، وفيها من الثقة والاعتداد وعدم التردد، ما جعلنا نقتنع بصدقه وعدم الارتياب فيه، وخوفاً من الحبس كنا ندفع له، ولأن المبلغ «الإتاوة» لم يكن يتوافر للبعض دائماً، فقد كانوا يؤدونه أحياناً فى صور أخرى، «ساندويتش»، قلم، مبراة.. إلخ. وقد كان أحدهم يستصحبه معه إلى بيته ليعطيه ملعقة من «مربى الورد» التى كانت والدته تجيد صناعتها، وعلى الرغم من ضيق المجموعة بسلوك مسعود القاضى معهم، فإننا وجدنا البعض يطريه ويتحدث عنه بإعجاب ويدافع عنه باستماتة، وهو ما كان يثير اهتمامنا وحفيظتنا، بل اندهاشنا واستغرابنا، والعجيب أنه كان مقرباً من بعض مدرسينا، إلا أننا كنا نعزى ذلك للنفوذ الذى تتمتع به والدته (!)
صحيح كانت ألاعيب وادعاءات مسعود القاضى تخيل وتنطلى على الكثيرين، إلا أن بعض الأذكياء منا استرابوا وتشككوا فى الأمر، كان صديقنا «إبراهيم» من هذه النوعية، فقد شكك فيما يدعيه «مسعود»، وأن والده ربما لم يكن قاضياً، فأولاد القضاة يبدون من مظهرهم أنهم ميسورو الحال، ولا يتصرفون على نحو أشبه بقطاع طرق، كما أنهم لا يتسمون بهذه النوعية من الأسماء، بل بأسماء أخرى من مثل معتز، وعادل، وشيرين، وهكذا. وهداه تفكيره إلى أن يتبع «مسعوداً» بعد انتهاء اليوم الدراسى، وقد حدث فعلاً، المهم أنه رآه يتوقف عند محل فاكهة، لكنه فوجئ به يغافل البائع ويسرق تفاحة ويفر هارباً، ليأكلها بعيداً، قال «إبراهيم» فى نفسه: لا يمكن أن يصدر هذا التصرف من ابن قاض، قوى هذا من الشكوك لديه، فعرض على «مسعود» زيارته فى بيته للقاء والده كى يأخذ رأيه فى مشكلة وقعت لأحد أقاربه، فطن «مسعود» إلى الحيلة، ورفض فى البداية، وتعلل بأن والده مشغول على الدوام، وطلب من «إبراهيم» أن يخبره بالمشكلة، وهو -أى «مسعود»- يتحدث إلى والده وسوف يخبره بالحل أو الرأى فى اليوم التالى، لكن «إبراهيم» ظل يلح فى طلبه، فلم يجد «مسعود» مفراً إلا أن يعرض عليه إعفاءه من دفع «الإتاوة» اليومية، وينتهى الأمر عند هذا الحد، لم يقبل «إبراهيم» هذه «الرشوة» وأصر على الزيارة، وإزاء ذلك قال «مسعود»: ما رأيك فى أن تأخذ جزءاً مما «أتقاضاه» من الزملاء؟ رد «إبراهيم» متسائلاً: كم؟ قال «مسعود» وقد أحس أن «السنارة» قد غمزت: قرشان، قال «إبراهيم» (مستنكفاً): هذا مبلغ قليل، قليل جداً، قال: «مسعود»: إذن سوف أجعل المبلغ ثلاثة قروش، رد «إبراهيم»: هذا لا يكفى، قال «مسعود»: لن أزيد على أربعة قروش، ثم أردف بعصبية ظاهرة: هذا آخر ما عندى، رد «إبراهيم»: هذا العرض غير مرضٍ على الإطلاق، ولن أقبل بأقل من نصف ما تحصل عليه، بالطبع لم يكن «إبراهيم» يعلم ما يجمعه «مسعود»، وهل نشاطه مقتصر على أطفال مرحلتنا، أم أنه ممتد إلى مراحل أخرى؟ ولأنه خشى من عدم إتمام الصفقة، فقد اضطر إلى الموافقة.
أحاطنا «إبراهيم» علماً بما تم، انبرى «على» يقول: لماذا لا نبلغ أحد مدرسينا بذلك؟ قال «سيد»: من رأيى أن نتريث ونجمع قدراً أكبر من المعلومات عن الموضوع، وكان الرأى الذى انتهينا إليه هو أن يظل «إبراهيم» يمارس هذا الدور، على الأقل حتى يعيد إلينا بعض ما يؤخذ منا، مع مرور الوقت، اكتشف «إبراهيم» أن مجموعة الأطفال التى تطريه وتدافع عنه كانت مجندة من قبل «مسعود»، ليس فقط فى مقابل إعفائها من دفع الإتاوة، وإنما أيضاً لإعطائها نصيباً مما يحصل عليه، الأدهى والأغرب، اكتشافه تقديم «مسعود» بعض الهدايا للمدرسين (!)
مرت الأيام والسنون، وتفرق الأصحاب، ولم يبق من ذكريات الماضى إلا القليل، وفى يوم فوجئت وأنا أشاهد أحد برامج «التوك شو»، برجل سمين، متورد الوجنتين، أصلع، عيناه لا تكاد تستقران، لكن تبدو عليه أمارات العز و«البغددة»، قدمت المذيعة الضيف على أنه أحد كبار رجال المال والأعمال المبرزين، ثم قالت باحتفاء شديد: نقدم لكم السيد مسعود القاضى، بالطبع لم يدر بخلدى أنه مسعود القاضى صاحبنا القديم الذى «استغفلنا» يوماً وخدعنا وجعلنا ندفع له إتاوة يومياً، إلا بعد أن ذكر فى ثنايا حديثه أنه من بلدتنا، وأنه عصامى، وأن أسرته كانت رقيقة الحال، ومع ذلك استطاع بجهده الخاص وفى وقت قصير أن يبنى نفسه، وأن يصعد إلى قمة التل دون مساعدة من أحد، فهل كانت خصائص الرجل التى كنا نعرفها عنه فى مرحلة الصبا الباكر هى السبب وراء نجاحاته وإنجازاته؟ بالطبع ليس لدينا أدنى اعتراض على الثراء الذى وصل إليه مسعود القاضى، وسبحان العاطى الوهاب، صحيح أنه اختفى من حياتنا فترة طويلة من الزمن، ثم ظهر فجأة على هذا النحو، ولا ندرى ما فعله خلال تلك الفترة، وهل ظل فى مصر أم أنه سافر إلى الخارج، حيث توافرت لديه فرص الثراء؟ لا توجد لدينا دلائل أو قرائن على أن الرجل جمع ثروته الطائلة بطريق أو طرق غير مشروعة، ثم إنه ليس من مهمتنا أن نفتش عن ذلك، وإنما هى مهمة الأجهزة الرقابية، من المؤكد أن مسعود القاضى نموذج متفرد، لكن احتمال تكراره فى مجالات وميادين أخرى يظل قائماً.