أخيراً قررت روسيا أن تعود بقوة إلى مسرح الشرق الأوسط، وأن تقوم بما كان ينبغى أن تقوم به أى دولة مهمة فى النظام العربى، وهى ترى أعمدة هذا النظام تنهار واحداً وراء الآخر، بالتأكيد لروسيا -كدولة عظمى- أسبابها للتدخل فى الأزمة السورية، ولها أيضاً مصالحها، التى قد لا تكون مقبولة من الغرب والولايات المتحدة، إن لم تكن متعارضة، لكنها بالحتم ليست متناقضة مع المصالح العربية التى تتعدد بينهما أوجه الاتفاق، وليست هذه هى المرة الأولى فى تاريخ العلاقات الروسية العربية التى تتلاقى المصلحتان الروسية والعربية، تلاقت المصالح فى عصر الحرب الباردة يوم كانت روسيا حليفاً قوياً للعرب، وتلاقت فى عصر ما بعد الحرب الباردة عندما قرر العرب كسر الاحتكار الأمريكى للسلاح، وعندما اعترفت الدولة الروسية بشرعية الثورة المصرية على إرهاب الإخوان فى 30 يونيو 2013.
أقلام كثيرة خانها التقدير فى تقييم التدخل الروسى فى الأزمة السورية، بعضها مدفوع بنوايا طيبة، يساورها قلق من الوجود الروسى، وهو قلق عام ينسحب على أى وجود أجنبى، لا يفرق -كما قال أمل دنقل- بين وجود «سيفه كان لك» ووجود «سيفه أثكلك»! والبعض الآخر يصدر فى رفضه للتدخل الروسى عن أجندة إقليمية ودولية، لا تريد حلاً للأزمة السورية إلا بغياب بشار الأسد، بينما لا أحد غير الشعب السورى من حقه أن يقرر مصير الأسد، وحدها روسيا وأطراف عربية أخرى من بينها مصر هى التى تعرف أن البديل الجاهز للحكم فى سوريا هو أبوبكر البغدادى، وبالطبع فإن الدخول الروسى المباغت والقوى على خط الأزمة السورية، رغم أنها لم تكن غائبة أبداً عنها، كان صدمة لكثيرين، لكنهم قبلوه على مضض بعدما صار أمراً واقعاً، ولماذا يرفضونه وقد قبلت به الولايات المتحدة بكل حماسها الجارف للحرب على الدولة السورية، والقبول الأمريكى بالدور الروسى فى سوريا هو فى مضمونه اعتراف بالفشل الأمريكى، وبأن التحالف الدولى الذى تقوده واشنطن ضد الإرهاب كان مثل «دون كيشوت» يحارب طواحين الهواء، وكانت ضرباته التى أخطأت أهدافها عمداً قبض الريح، تحت راية التحالف -الذى كان نوعاً من ذر الرماد فى عيون العرب- «تمددت» داعش وتوسع نفوذها.
والحقيقة التى يعرفها كل متابع للشأن السورى هى أن التمييز بين معارضة معتدلة يساندها الغرب فى سوريا ومعارضة إرهابية يحاربها، هو نوع من «التسويق الدولى» لفكرة مختزلة، كانت قبل أن تنكشف المؤامرة على سوريا تجد من يشتريها، فصار من الصعب تمريرها أو قبولها، تلك الفكرة هى «أن نظاماً سياسياً مستبداً يحارب جماعات إصلاحية سلميةً، كيف تكون المعارضة سلمية ومعتدلة ومسلحة فى الوقت نفسه؟! ومن ذا الذى يقطع بأن تلك المعارضة المعتدلة غير ضالعة فى علاقات تعاون أو تنسيق مع داعش والنصرة؟ ألم تحتضن الولايات المتحدة مؤخراً الجماعات السورية المعتدلة وتفتح لها مخازن السلاح ومراكز التدريب، ثم إذا بهذه المعارضة المعتدلة تُسلِّم سلاحها الأمريكى إلى تنظيم النصرة الإرهابى!
هل الروس بعيدون عما يجرى فى سوريا؟ كيف يكونون بعيدين وهناك فى صفوف «داعش» ما يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل شيشانى وآلاف غيرهم من القرم والقوقاز؟ وهل تنتظر روسيا ويدها على خدها حتى يصير هؤلاء شوكة فى خاصرتها، أو رأس رمح لغزوة إسلامية تدق فيها سنابك خيل الخلافة أبواب موسكو؟! لقد تعلم الروس أن أفضل طريقة لرد الخطر هو ضربه فى «المنبع» قبل أن يباغتها فى «المصب»، ألم يكن حلمهم منذ عهد القياصرة هو الوصول إلى المياه الدافئة التى كانت تعربد فيها أساطيل القوى الاستعمارية القديمة فى القرن التاسع عشر؟! لا عن رغبة فى التوسع الاستعمارى، وإنما حماية لبطنها المكشوف فى الجنوب،
وقد جاء التدخل الروسى فى سوريا -وكان من المتوقع أن يجىء- فى توقيت «محسوب» بدقة، جاء فى لحظة بلغت فيها «التراجيديا السورية» -بلغة الرواية- «ذروتها»، كان لا بد لها من «نهاية»، بدلاً من أن تكون «نهايتها» -كما أراد الأمريكيون- «مفتوحة»! كان الضمير الإنسانى جاهزاً لأن يقبل «بمنقذ» أو «مخلّص» يضع حداً للدمار واسع النطاق فى سوريا وللإبادة الجماعية والاقتلاع والتهجير القسرى أمام فظائع الإرهاب التى يخجل منها هولاكو.
وروسيا فى المخيال الشعبى العربى هى المنقذ والمخلص، وهى دولة كبرى بلا تاريخ استعمارى فى المنطقة، ولا تحفظ لها الذاكرة الجمعية العربية ذكريات بغيضة من القهر والغزو الإمبريالى، على غرار ما تركته الإمبريالية الغربية من ذكريات أليمة، وروسيا -فى التحليل الأخير- أمة شرقية قديمة، تختزن فى موروثها الحضارى خليطاً من تقاليد المسيحية الشرقية الأرثوذكسية المتسامحة، وثقافات الأمم السلافية المبدعة، وكنوزاً من النسخة القوقازية للتراث الإسلامى المنقول من مراكزه التاريخية فى «بخارى» و«طشقند» و«سمرقند» على التخوم الجنوبية لروسيا، تكوين تاريخى هذا ثقله هو الذى حدد لروسيا «خياراتها» التى لا تحيد عنها، فهى فى صف العدالة والسلام والتحرير الوطنى.
لقد فتح الظهور الروسى المفاجئ على مسرح الشرق الأوسط ثغرة فى النفق السورى المظلم، ورفع سقف التوقعات بالوصول إلى حل مرضٍ للأزمة، وأعطى أملاً بأن انفراجة تاريخية فى ملف معقد وشائك على وشك الحدوث، وعلى الأطراف العربية وعلى رأسها مصر، صاحبة العلاقة التاريخية الأوثق بسوريا، والتى عارضت منذ اليوم الأول للأزمة التدخل العسكرى الغربى فى سوريا، عليها أن تكون شريكاً فى أى ترتيبات مقبلة للأزمة السورية، من شأنها أن تحفظ للدولة السورية وحدتها، ومصر هى الضمان بأن القرار النهائى بشأن سوريا لن يكون قراراً غير عربى، حتى وإن كانت روسيا قد قامت بما كان ينبغى أن تقوم به أى دولة عربية غيورة لإنقاذ نظام عربى آيل للسقوط.