مع تساقط أوراق الخريف أمام شرفتى الصغيرة متشحة بألوان الرحيل، مستسلمة للوعد، لرياح لا تنسى المواعيد، ولا تنعى الراحلين.. تعبث أناملى بأوراق النتيجة بحثاً عنه، ذلك اليوم الفارق فى حياتنا، فلا يزال هو أجمل ما نحمل من كبرياء الوطن. أتوارى من نفسى خجلاً وضآلة أمام رجال صنعوا التاريخ.. تعترينى ذكريات، كلمات أكتبها استسلاماً لشجون كل عام، ثم أضن عليها ببعض النور لتظل حبيسة درج مظلم.. فهل تسمح لى يا قارئى وصديقى أن أفتح درجى الصغير، أنفض التراب عن بعض ما يئن به.. أصحبك معى -كسُنّتى كل عام- فى رحلة بين حروف اختلط فيها الواقع بالخيال حتى كدت أفقد الخيط الرفيع بينهما؟ ولكن أستميحك عذراً أن تترفق بحكاياتى، فهى طيف من الماضى يلتمس على استحياء أن يذكرنا بما يجب ألا ننساه..
الحرامى: استرها يا رب..
فى ممارسة يومية لطقس التناقض بين ما نقول وما نفعل (أحد أمراض مجتمعاتنا العربية المزمنة)، قالها بصدق شديد وهو (يطفّش) الباب الخلفى لمحل الأجهزة الكهربائية بحثاً عما خف وزنه وغلا ثمنه، وقد ترك أكتوبر بصمته الخريفية على الشارع الهادئ رغم أننا ما زلنا بعد منتصف النهار بقليل.
ترامى إلى سمعه حديث البائعين الوحيدين فى المحل عن ذهابهما إلى المخزن فى الشارع الخلفى لمراجعة بعض الأصناف.. شعر أن الفرصة أصبحت مواتية، خاصة أن صاحب المحل لا يتحرك كثيراً من مكتبه عند الواجهة الرئيسة.
تتبع رحيلهما حتى اختفيا عن الأنظار وتلاشى صوت شكواهما من الركود وما تمر به البلاد من ظروف صعبة.
تسلل فى هدوء بعد أن فتح الباب الخلفى ببراعة علمه إياها تراكم خبرات مجالسة رفقاء السوء فى كل سجن أو حجز دخله فزادوه خبرة ومهارة.
ألقى نظرة تأكيد من باب المخزن على صاحب المحل المنهمك فى قراءة الجرائد بمكتبه. حدّث نفسه.. هل ما زال هنالك من يقرأ تلك الأوراق التى لا تحمل إلا الأكاذيب ومحاولات خداعنا بحكايات الحرب التى لن تحدث وطرد اليهود الذين لن يرحلوا عن سيناء أبداً؟!
بلع ريقه مراراً فى حلقه كلما تذكر الثأر الضائع والعرض المسلوب.. فحتى الأشقياء ومنبوذو المجتمع لا تزال لديهم بقايا حمية ومروءة أصبحت سجينة أسوار النفس الأمّارة بالسوء مكتفية بقاموس عالم الخارجين على القانون، فللخيانة مفهوم وللتعاون أصول وحتى للجدعنة مقياس آخر..
تجول فى المخزن مستغلاً ترك العمال لجهاز راديو يذيع بعض الأغانى التى يمكن أن تدارى أى صوت قد يصدر من حركته.. بدأ المفاضلة بين الأجهزة المتاحة أمامه.. تلك مكواة «يابانى» من النوع المفتخر.. هذا مسجل كاسيت كالذى يسمعه فى القهوة، لن يأخذه، فصوته ليس جيداً، خاصة عندما يعلو.. هذه مروحة بثلاث سرعات، ولكن من يشتريها ونحن على أبواب الشتاء؟
بدأ يتحرك عائداً من حيث أتى حاملاً غنائمة فى حرص. وفجأة ينقطع الإرسال المعتاد من الراديو ويبدأ بث موسيقات عسكرية دون تفسير. وقبل أن يتساءل وهو على بعد خطوات من الخروج علا صوت المذيع ليجد نفسه واقفاً لا يستطيع الحركة:
إليكم البيان الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة..
بسم الله الرحمن الرحيم..
نجحت قواتنا المسلحة فى اقتحام قناة السويس فى قطاعات عديدة واستولت على نقط العدو القوية بها، وتم فتح ثغرات بالحاجز الترابى الذى أنشأه العدو الإسرائيلى ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة و....
لم يسمع باقى البيان لأنه وجد نفسه بلا وعى يلقى بكل غنائمه على الأرض وهو يقفز صائحاً:
- الله أكبر.. الله أكبر.
انتبه صاحب المحل على الجلبة الصادرة فأتى مسرعاً للمخزن:
- فيه إيه.. انت مين؟
- عبرنا القناة ورفعنا العلم.
- انت بتتكلم جد؟
- اسمع البيان.. ليهلل صاحب المحل فرحاً: الله أكبر.. الله أكبر.. عملوها الأبطال.
ولم يدر الاثنان إلا وهما يقفزان ودموع الفرح تسابق كلمات الشكر والحمد والتهليل فى مشهد من الجنون الجميل.
ووسط هذا الخضم من المشاعر نظر صاحب المحل إلى ذلك الغريب فى مخزنه:
- انت كنت بتعمل إيه هنا؟
- كنت باسرقك.
رانت لحظة صمت عجيبة.. نظر كل منهما إلى الآخر فى توجس.. لينفجرا فى نوبة من الضحك ويحتضنا بعضهما فى تسامح.. وتحيا مصر.