المواجهات بين المقدسيين وقوات الاحتلال الإسرائيلى تتصاعد يوماً بعد يوم، والسبب المباشر لذلك يرتبط بتواصل عمليات اقتحام المسجد الأقصى من جانب المستوطنين الإسرائيليين. ليست تلك هى المرة الأولى التى تقع فيها مثل هذه الأحداث، لكن حالة السكات من جانب كل الأطراف التى يفترض أن يعنيها هذا الأمر هى الجديدة والفريدة من نوعها. فلا الحكومات ولا الشعوب العربية ولا الأحزاب ولا القوى السياسية، بما فى ذلك الإسلاميون الذين لا يتوقفون عن الطنطنة بالكلام عن المقدسات، تُبدى أى نوع من الحراك إزاء ما يحدث، حتى عبارات الشجب والإدانة المعتادة فى مثل هذه الظروف كانت شحيحة وقليلة للغاية.. والسر فى ذلك هو الانشغال.. فالعرب والمسلمون مشغولون هذه الأيام أشد الانشغال!.
العديد من الحكومات العربية أخرجت فلسطين من معادلة تفكيرها، وحتى مدينة القدس التى كانت تحظى بنوع من الاهتمام بسبب ما تحمله من مقدسات بالنسبة للعرب والمسلمين لم تعد يستوقف أحداً منهم الأحداث والاعتداءات المتكررة من جانب المستوطنين الإسرائيليين عليها. انشغل العرب والمسلمون عن إسرائيل وما تفعله فى القدس بأنفسهم، وبإراقة دم بعضهم البعض، مرة فى سوريا، وأخرى فى اليمن، وثالثة فى العراق، ورابعة فى ليبيا، وهكذا، صراعات لا تنتهى، مرة بعلة الدفاع عن كراسى الحكم، وأخرى بعلة الدفاع عن المذهب، ووقوفاً ضد تمدد الأغيار فى المنطقة على حساب الأُصلاء. وهكذا يواصل الحكام العرب والمسلمون استنزاف بعضهم البعض، فى حين يرتع الإسرائيليون فى القدس.
الأحزاب والقوى السياسية العربية مشغولة هى الأخرى عن القدس، الإخوان والسلفيون فى مصر -على سبيل المثال- غارقون فى معارك السلطة، الإخوان ما زالوا يحلمون بالعودة إلى كراسى الحكم، ويفعلون كل ما بوسعهم فى سبيل ذلك، رغم ما يؤكده الواقع من أنهم كانوا ينتحرون، حين فكروا فى الحكم، أما السلفيون فحدِّث ولا حرج، فهم مشغولون بمعركة الانتخابات البرلمانية من ناحية، وبقضايا النقاب واللحية والسواك من ناحية أخرى، وبالتالى فلا وقت لديهم للتوقف وتأمُّل ما يحدث فى القدس، حتى على مستوى الصراخ والجعجعة، كما كانوا يفعلون فى مواقف سابقة شبيهة!. وللأسف الشعوب العربية مشغولة هى الأخرى، فمن يملك من أبناء هذه الشعوب مشغول بالتبختر فى متع الحياة المخملية، ومن لا يملك مشغول بمطاردة رزقه، من أجل ملاحقة الأسعار التى خرقت كل الأسقف، ولم يعد فى إمكان أحد السيطرة عليها.
هذا الانشغال والنوم عن الخطر الإسرائيلى أمر لا ينذر بخير، ومن يسترجع فترة الستينات سيجد أننا كنا نعيش مشهداً قريباً من المشهد المعاصر، حين كان العرب غارقين فى حرب اليمن، وكل حاكم منهم يبحث عن حماية عرشه ضد عدوى الثورات، وكانت إسرائيل ترتع فى مقدسات العرب والمسلمين فى ذلك الوقت، بلا رادع، ووصل الأمر إلى حد حرق المسجد الأقصى دون أن يحرك العرب ساكناً، بسبب الانشغال بالطبع، وكانت النتيجة أن تجرأت إسرائيل أكثر وأكثر حتى انتهى بنا الأمر إلى كارثة!