اقترب فصل الشتاء.. ومع اقترابه، تنسحب الشمس ببطء لتختفى وراء الغيوم، وينسحب معها النور والدفء فلا يبقى لنا غير البرد والظلام وأغصان يابسة.. مما يُدخلنى فى شعور موسمى بالانقباض والكآبة، ولا أعلم بالضبط أهى ذكرياتنا الحزينة المتراكمة فى مثل هذا الوقت من العام التى تخلق ذلك الشعور، أم كآبتنا الشتوية التلقائية هى التى تستدعى تلك الذكريات وتزيدها حزناً وقتامة؟
اقترب فصل الشتاء.. ومع اقترابه، تهاجر الطيور التى لا تقوى على الجوع والبرد.. تهاجر بحثاً عن الشمس.. تستعد هذه الطيور لرحلتها الطويلة بالتزود بالطعام الدسم وتغيير الريش، ثم تنطلق قاطعة آلاف الأميال عبر البحار والصحارى والقارات بقدرة ملاحية ربانية عجيبة، لتصل أخيراً إلى بلاد جديدة، تسطع شمسها وتشع دفئاً، فتجرى الجداول بالمياه العذبة، وتجود الأرض بالثمار الطيبة.
اقترب فصل الشتاء.. ومع اقترابه، يلجأ الكثيرون فى العالم الحديث إلى العيادات النفسية لعلاج اكتئابهم الشتوى وللتخلص من أعراضه المزعجة، كالاستغراق فى النوم، والميل إلى الكسل وقلة العمل، وكثرة الأكل، وصعوبة التركيز، والابتعاد عن الأصدقاء.. وبفضل الطب النفسى، وضع العالم الحديث حداً لهذه الكآبة، فأصبحت شعوبه أكثر سعادة وقدرة على الإنتاج، واستمر سعيهم نحو مزيد من العلم والعدل والحرية.
أما كآبتنا الشتوية فهى كآبة ألفناها وتعايشنا معها كجزء من خلقة ربنا.. وفى هذه الأيام بالذات، تزامن وجودها مع كآبة شتاء آخر.. شتاء فكرى مظلم.. يزيد فيه الخوف والجوع والظلام والصراع من أجل البقاء، ملىء بالرياح والأعاصير والأمواج المتقلبة، وفوق ذلك كله، يسيطر الاستقطاب البشع على الأنفس والعقول.. الحقيقة، لقد أصبحنا نعيش فى فيلم خيال علمى فريد من نوعه، ربما ينتمى إلى سلسة أفلام «سيد الخواتم»، حيث تتحالف قوى الشر السفلى للسيطرة على الدنيا، بينما تتكاتف قوى الخير فيما بينها لدحض قوى الشر.. (وأقطع دراعى من هنا إن ما كان كل واحد بيقرا المقال دلوقتى بيقول أيوه فعلاً أنا من قوى الخير والتانيين همّ قوى الشر).
عموماً بالنسبة لى، وبمنتهى الصراحة، فإن مجموعة قوى الخير، مع مجموعة قوى الشر، مع جو الشتاء الباهت، كلهم كده بالصلاة ع النبى انضربوا فى خلاط واحد، فتحولوا إلى والعياذ بالله مزيج مخاطى مخيف داخل عقلى، عجز أطباء النفس عن إزالته، وفشل باشمهندسو السباكة فى تسليكه.. أتفهم الآن لماذا تنتشر فى بلادنا كودية الزار والعلاج بزيت البردقوش.
يقول العلم إن التعرض للضوء الساطع فترة مناسبة يومياً يعالج بفعالية الاكتئاب الموسمى الشتوى.. هذا جيد!.. فما أكثر الأضواء الساطعة فى أسواقنا ومطاعمنا وبيوتنا.. لكن يبدو أن أزمتنا الحقيقية تكمن فى انعدام الضوء بداخلنا.. وللأسف سيظل شتاء الفكر يحصد العقول ويفتك بالأحلام ما دامت شمس النفوس غائبة خلف الغيوم والهموم.. أرجو أن أجدك يا شمسى قبل أن تبهت الحياة.. فلا يبقى لى حينها غير التزود بالطعام الدسم.. وتغيير الريش.. لأستعد للرحلة الطويلة.. قاطعاً آلاف الأميال.. بحثاً عن الشمس.