أياً كانت ملاحظاتنا على الانتخابات البرلمانية، فسوف يكون لدينا بعد شهر من الآن برلمان منتخب يسعى إلى ممارسة دوره وفقاً لكفاءة وقدرة أعضائه على بناء التحالفات وتمرير القوانين ورقابة أعمال الحكومة. وسوف يكون البرلمان بشكل أو بآخر فضاء سياسياً جديداً يحدث داخله نوع من الفرز الطبيعى، تبرز خلاله قيادات سياسية واعدة ومهارات فردية وقدرات حزبية سيظل الوطن بحاجة إليها طالما أن لديها القدرة على العطاء وإقناع الناس بقيمة ما يقدمونه، ومن ثم تتبلور شرائح اجتماعية تميل إلى هذا الحزب أو ذاك بصورة طبيعية وبدون اصطناع. سيكون البرلمان بمثابة درس عملى فى الممارسة الديمقراطية وفى البحث عن الصالح العام الذى يتوافق حوله غالبية محترمة تحوله إلى قانون يطبق بمهنية عالية أو ممارسة سياسية مقبولة من عموم المجتمع. هكذا تطورت الديمقراطية كنظام سياسى فى البلدان التى تعرفها الآن أياً كانت الخلافات فى التطبيقات بين هذا النموذج أو ذاك. فالمهم أن يتطور التطبيق الديمقراطى من رحم المجتمع نفسه بقناعة أبنائه ورضائهم التام.
بناء نموذج ديمقراطى بنكهة مصرية هو فعل تراكمى تاريخى يتطلب بعض الصبر، والكثير من التعلم من التجارب التى مرت بها بلدان أخرى من قارات مختلفة مرت بما نمر نحن به الآن من تعايش بين متناقضات سياسية وسلوكية وفكرية، وكأننا فى مرحلة فرز وانتخاب طبيعى لما يجب أن يبقى ويستمر معنا، وما يجب أن يختفى تماماً من حياتنا ويذهب إلى غير رجعة. ومن بين الأحداث التى نمر بها الآن وذات صلة مباشرة بالبناء الديمقراطى المرغوب ولو بعد حين، حدثان أولهما يتعلق بالقدرة على التسامح وقبول الاختلاف فى الأفكار والأطروحات ما دامت فى سياق سياسى يقبل الأخذ والرد. فقبل عدة أيام خرج السيد عبدالمنعم أبوالفتوح، رئيس حزب مصر القوية، والمُقاطع للانتخابات البرلمانية، بتصريحات لقناة «بى بى سى» البريطانية دعا فيها إلى ما اعتبره الحل للأزمة الراهنة التى تمر بها مصر وهو انتخابات رئاسية مبكرة، وتصريحات أخرى عن سوء إدارة الرئيس وعدم جدوى البرلمان المقبل. وهى بالقطع تصريحات مستفزة لقطاع كبير جداً من المصريين الذين يرون أن بلدهم يتحرك إلى الأمام وإن كان ببطء شديد، ويؤمنون بأن دستور مصر الراهن لديه الحلول القانونية والسلمية فى حالة وجود أخطاء كبرى قد يقع فيها رئيس الدولة تؤدى إلى ما لا تُحمد عقباه. ورغم اقتناعى بأن ما قاله السيد عبدالمنعم أبوالفتوح مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما تروج له بعض قوى سياسية ظاهرة وخفية بالإعداد لما يرونه ثورة جديدة وواجبة مطلع العام المقبل تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح من وجهة نظرهم، إلا أننى أفضل من منطلق مبادئ ديمقراطية رصينة أن يظل التعامل مع مثل هذه الأفكار رغم ما فيها من شطحات بعيدة عن الواقع من خلال الحوار والنقد والتدليل على سخفها وخروجها عن السياق الدستورى الذى تُحكم به البلاد، وهو ما حدث بالفعل من قِبل عدد من السياسيين والكُتّاب الذين فندوا هذه المقولات من زوايا مختلفة قانونية وسياسية وعملية، وليس من خلال تقديم بلاغات إلى النائب العام والذهاب إلى قاعات المحاكم، وهو أمر إن حدث سيكون ضرره أكبر من نفعه، وسيعطى لما قيل قيمة أكبر مما تستحقه، وستدفع مصر وصورتها وسعيها الديمقراطى ثمناً آخر من التشويه المتعمد، خاصة فى وجود متربصين فى الداخل والخارج يسعون إلى تضخيم مثل هذه المواقف واستغلالها فى إثبات تقييمات سلبية عن مستوى الحريات السياسية والمتاجرة بها ضد البلاد والعباد وليس فقط ضد الرئيس السيسى.
وإذا كنا بالفعل مؤمنين بقيمة الديمقراطية ذات النكهة المصرية فلا قيمة لما نفعل دون التمسك بحرية الرأى ما دامت فى إطار إبداء الإفكار مهما اتسمت بالشطط وعدم الواقعية، ولا قيمة لما نبنى إذا كان كل همنا هو منع الانتقادات أو الزج بأصحابها إلى السجون. هناك مساحة من الحرية مصحوبة بقدر من التسامح هى من صميم أى ديمقراطية، والتخلى عنها يعنى التخلى عن البناء الديمقراطى كله.
أما الأمر الثانى فيتعلق بممارسات ما يجب لها أن تكون أبداً فى حياتنا العامة، وأقصد به التعذيب فى بعض مراكز الشرطة، سواء لمصريين أو سودانيين. التعذيب هو فعل مُجرم قانوناً وهو فعل شائن إنسانياً ولا يستطيع أحد عاقل يحب وطنه أن يدافع عنه تحت أى مبرر، وهو تطور خطير بكل المقاييس حتى لو كانت مجرد حالة واحدة. أما هؤلاء الضباط أو مساعدوهم الذين يتورطون فى مثل هذه الوقائع المشينة فيجب ألا يكون لهم مكان فى جهاز الشرطة بعد محاسبتهم حساباً سريعاً ورادعاً.
لقد كتبنا من قبل حول الثمن الذى دفعته الشرطة ومصر كلها نتيجة انتشار ممارسات خاطئة لبعض أفرادها ورغم ثبوت الجريمة فلم تتم محاسبتهم بما يناسب فعل الجريمة ذاتها، ومن الخبل أن يتصور أحد أن بإمكانه استعادة هذه الممارسات المشينة بدون رد فعل وبدون محاسبة وردع. وانظروا مثلاً لرد الفعل المختلط رسمياً وشعبياً فى السودان حول ما نشر من تعذيب لأحد السودانيين فى أحد أقسام الشرطة، وانظروا أيضاً للكلمات القاسية التى قيلت بحق المصريين جميعاً بدون تمييز نتيجة خطأ أحد الضباط الذين لم يقرأوا الواقع جيداً ولم يدركوا حجم التغيير الذى تعيشه البلاد. وانظروا أيضاً لما يُقال فى مواقع الدردشة الاجتماعية حول وقائع التعذيب فى بعض أقسام البوليس. ومن غير الحكمة أن نوفر لهؤلاء المزيد من أخبار الإثارة والنقمة على مصر بكل ما فيها. وكما طالبنا من قبل وزارة الداخلية وكل الأجهزة المعنية بمحاسبة المخطئين فوراً، نكرر هذا المطلب ونأمل أن نجد له صدى سريع يشفى غليلنا ويعطينا بعض الأمل بأن هناك من يحافظ على سمعة هذا الجهاز الشرطى المُهم ويحافظ أيضاً على سمعة البلاد والعباد.
وقد يسرح بنا الخيال قليلاً ونتصور أن يعطى نواب الشعب المنتخبون بعض الاهتمام لعملية إعادة هيكلة جهاز الشرطة التزاماً بالمعايير القانونية والإنسانية والمهنية المتوافقة مع القيم الديمقراطية، فدون معالجة جذرية لهذه الأخطاء القاتلة من المنبع، سيظل على مصر أن تدفع ثمناً باهظاً بين الحين والآخر. لقد وثق الشعب فى هؤلاء النواب، وعليهم أن يكونوا عند حُسن الظن بهم.
قد يسرح بنا الخيال قليلاً ونتصور أن يعطى نواب الشعب المنتخبون بعض الاهتمام لعملية إعادة هيكلة جهاز الشرطة التزاماً بالمعايير القانونية والإنسانية والمهنية المتوافقة مع القيم الديمقراطية فدون معالجة جذرية لهذه الأخطاء القاتلة من المنبع سيظل على مصر أن تدفع ثمناً باهظاً بين الحين والآخر. لقد وثق الشعب فى هؤلاء النواب وعليهم أن يكونوا عند حُسن الظن بهم