ومشيت فى شارع محمد الخامس ذهاباً وإياباً وهرولت فيه صباحاً ومساءً منذ وصلت إلى العاصمة التونسية لحضور فعاليات مهرجان أيام قرطاج السينمائية، ولم يمسنى سوى رائحة الياسمين التى تتخفى وراء هذا الطقس التونسى اليومى الذى يؤثث به التوانسة لنهارهم، ناس يحملون أنفسهم إلى العمل ويخرجون منه إلى محمد الخامس الشارع الذى لا تتلفت فيه لتبحث عن الدهشة، لأنها غير مشرعة على مبانيه البيضاء الموزعة بين مؤسسات بنكية (البنك التونسى للتضامن، البنك التونسى الكويتى) ومؤسسات اقتصادية (المجلس الاقتصادى والاجتماعى، الديوان التونسى للتجارة)، مبان لا تطرز المكان إلا بإشارات العمل وعبور سريع للزائرين أو العاملين الذين يدلفون منه إلى شارع الحبيب بورقيبة يجلسون على مقاهيه أو يتدبرون أمرهم فى محلاته ودكاكينه حتى تدق ساعات برج الساعى على رأس شارع الحبيب بورقيبة معلنة انصراف أو حضور أهل البلد، أما أمثالى الذين يتحركون وفق نظرية «نزهة الغرباء» فلا يلتفتون إلى دقات الساعة وينتهى أمرهم بلعبة المد والجزر مع الشوارع، يلتقون فى الحبيب بورقيبة وجلساته المفتوحة على الهواء ومسرحه البلدى الذى صممه المعمارى جان - إميل رسبلندى، قبل أن يتم هدمه سنة 1909 لزيادة مساحته وإن سلمت واجهته من عملية الهدم، ويتوزعون على شوارع روما والجزائر العاصمة باريس ومرسيليا والقاهرة وجمال عبدالناصر واليونان وقرطاج وابن خلدون، ويظل شارع محمد الخامس بالنسبة لى هو شارع الحضور والعبور السريع حتى انحسر الزمان عن فضائه وعوى ذئاب الإرهاب وقاموا بتفجير حافلة الأمن الرئاسى ما أدى إلى 12 شهيداً و17 جريحاً فى يوم بدأ برياح شديدة ومطر غزير فى تونس وجحافل من الأخبار الكارثية فى العالم كله انتهت بتفجير فندق يقطنه القضاة المشرفون على الانتخابات البرلمانية بمدينة العريش فى مصر قبل تفجيرات شارع محمد الخامس فى تونس.
وتيرة الإرهاب واحدة تكتب فصلاً جديداً فى الفزع وتحاول أن ترسم بالدم خريطة جديدة للعالم فيما يجنح المقاومون إلى المقاومة ولو بأضعف الإيمان، هذه المقاومة التى تُنتزع من الحزن قبل القوة ومن خُصلة الأمل تنمو برغم قربها من فوهة البندقية أو انفجار القنبلة، صادف الحادث الإرهابى فى تونس يوماً غائماً وشديد البرودة، لكن بعد الضربة الموجعة التى غيرت ملامح البشر بين حزن وغضب فاضت عن معنى آخر، فلا أحد يحذو حذو نفسه وإنما حذو الوطن حتى لا ينكسر الحاضر وينطوى على نفسه فلا يقدر على الخروج للمستقبل ولتظل تونس هى التى تؤنس أيها القتلة كما ورد فى بيان اتحاد الكتاب التونسيين، ومن هذه النقطة تواصل الدورة الـ26 لأيام قرطاج السينمائية عروضها وهى التى بدأت فى تحد صريح للقوى الظلامية ودعاة ثقافة الموت، لتظل السينما كما قالت المغنية والممثلة الإسبانية فيكتوريا أبريل فى حفل الافتتاح: «علاجاً يساعدنا على أن نحيا» سينما تمزق حجاب الظلام كما قال إبراهيم اللطيف مدير المهرجان، هى دورة استثنائية إذن، وصفتها وزيرة الثقافة التونسية: «هذه الدورة ترياق ضد العنف»، ومن خلالها تنتصر تونس للحياة وللسينما دون مراوغة أو صنع تراجيديا مكررة أو عبثية أن تأتمر لمجانين الانحدار يهددون بالدم كى تلغى فيلماً مثل المغربى «الزين اللى فيك» لأنه توغل فى موضوع مثير للجدل وحكى عن عالم الدعارة، وبصرف النظر عن قيمته الفنية ودرجتها، اختار المهرجان ألا يفسد السينما بمحراث التهديد «عمّال على بطّال» كما تقول العامية المصرية، بل إن أغلب الأفلام التى شاركت فى هذه الدورة لم تسرج خيال السينما ليكون هادئاً وساكناً، بل أثارت أسئلة لحوحة عن حال البشر فى أفريقيا أو العالم العربى أو العالم كله حول مصائر بشر يتوهون تحت سقف مجتمعاتهم القاسية ويتابعون حياتهم كأنهم يحلقون فى فراغ آدمى كما فى الفيلم الجزائرى «مدام كوراج» للمخرج مرزاق علواش الذى يكشف مساحات مجهولة لنا فى المجتمع الجزائرى ويغوص فى شخوصه الضائعين قبل أن يترك لنا نهاية مفتوحة كأنه يؤكد أن الهم والفقر والمخدرات والعنف مستمرة، ما يبعث على أسئلة من نوع: كيف يكون هذا هو حال الجزائر بلد المليون شهيد التى ناضلت ضد الاستعمار لتكون حرة؟ وبالطبع يمكن أن تُبدّل الجزائر باسم أى دولة أخرى فى المنطقة.