«العمار» خراب.. والحكومة «فى المشمش»
«العمار» خراب.. والحكومة «فى المشمش»
المستشفى تحول إلى خرابة
قرية «العمار»، هى إحدى قرى مركز طوخ بمحافظة القليوبية، تعد المصدر الأول لزراعة المشمش فى مصر، وتاريخياً أطلق عليها «عمار يا مشمش»، ولكن الحال أصبح غير الحال، فالقرية التى يقطنها 56 ألف نسمة يعملون فى الزراعة، أو هاجر أبناؤها للعمل فى الخارج، بات الفشل الكلوى يفتك بسكانها، تتعالى أصوات آلامهم دون مجيب، لا مستشفى، ولا أطباء، ولا وحدة صحية، ليس ذلك فحسب بل معاناة انتقال المرضى من القرية إلى مركز بنها حيث المستشفى العام لإجراء الغسيل تضيف إلى آلامهم آلاماً مضاعفة، على مدار 3 أيام أسبوعياً، غير الأوجاع التى تعقب عملية الغسيل نفسها. المفاجأة أن المستشفى موجود بالقرية، بل وتكلف الملايين لبنائه وتجهيزه، ومع ذلك وجد العنكبوت طريقه إليه مسكناً ملائماً بالنسبة له فنسج خيوطه فيه، ليس ذلك فحسب، بل جمع الأهالى أموالاً لشراء أجهزة الغسيل، ومع ذلك ترفض وزارة الصحة تسلمها منهم، ليكون ردها على الأهالى «فى المشمش».
«الوطن» تحقق: أهالى القرية على استعداد لـ«التعايش» مع «الفشل الكلوى».. لكن الإهمال يقتلهم
«إوعى يا بنى تكون من الناس اللى بييجوا يتفرجوا علينا وبعدين يمشوا، إحنا تعبنا»، تقول الحاجة هانم بدوى (60 عاماً) لـ«الوطن»، «باغسل من 9 سنين، قالوا لى عندك حاجة فى الدم، ولا أعرف إنها كلى ولا حاجة، لما حللت قالوا لى عندك حالة كراير فى الدم، بعد ما غلبنا سنين، حجزونى وقالوا لى دى حالة فشل كلوى، لازم تغسلى، مفيش مفر». عجزت «بدوى» عن متابعة شئون منزلها منذ سنوات، حيث إنها تستهلك 5 ساعات يومياً ولمدة 3 أيام أسبوعياً فى الانتقال من قريتها بالعمار الكبرى إلى مستشفى بنها العام، بالإضافة إلى المعاملة السيئة التى تلاقيها من طاقم التمريض «مستشفى بنها كانت كويسة، دلوقتى بقى فيها 3 شيفتات على طقم التمريض، وأوقات بيصعبوا علىّ والله مع إنهم أوقات بيحطونى على الجهاز 3 ساعات مع إن المفروض آخد 4، وأقول للممرضة، إدينى الساعة الرابعة، تقولى خلاص بقى يا حاجة عاوزين نروح نشوف بيوتنا وعيالنا».
أكثر من 60 حالة تعانى من الفشل الكلوى بالقرية، وتحتاج إلى غسيل 3 مرات أسبوعياً، «أنا باغسل فى 4 ساعات والخامسة بقى على ما لاقى مواصلات، أستنظر مكنة أو عربية، أو توك توك» تروى الحاجة هانم عبدالعليم (45 عاماً)، أم لـ4 بنات، واصفة الرحلة الشاقة التى تقطعها «لما أسيب بيتى وولادى وحاجتى وآجى طبعاً بيصعب علىَّ نفسى، وأقول يعنى لو فى مستشفى كويسة عندى مش كان زمانهم معايا»، تستدرك «المستشفى الموجودة داخل القرية لا تعمل سوى لخدمة تنظيم الأسرة فقط».
العنكبوت والخفاش يسكنان المستشفى الوحيد.. والأهالى: اشترينا أجهزة الغسيل الكلوى بالتبرعات و«الصحة» ترفض تسلمها
ليست آلام المرض وحدها، ولا معاناة الانتقال أيضاً التى تنهك المريض وأسرته، بل تقتطع الأسر من قوت يومها لاستئجار سيارة لنقل حالات الغسيل الكلوى 3 مرات أسبوعياً من القرية إلى مركز بنها، «موضوع الغسيل ده بيبقى تعب علىَّ فى المرواح والمجى، ولو تعبت هنا بالليل مش بلاقى أى إغاثة ولو رحت الوحدة مفيهاش حد خالص» حسبما روت صابرين عزت، إحدى المريضات بالفشل الكلوى، (35 عاماً) لـ«الوطن»، التى حرمت من الزواج بسبب هذا المرض، «العربية بتاخد مننا 3 أيام فى الأسبوع 30 جنيه رايح، و30 جنيه جاى، شوف بقى يقطعوا كام دول فى الشهر»، لا تجد صابرين حلاً سوى أن تقترض من الأقارب لمواجهة ظروف الحياة الصعبة. مستشفى «العمار الكبرى»، عبارة عن مبنى خارجى لعيادة تنظيم الأسرة، ومبنى ملحق من 3 طوابق، الأول يعمل لعيادة الباطنة والأسنان فقط، أما الطابقان الآخران فهما مهجوران تماماً، يسكنهما طائر الخفاش، وكثير من أعشاش العصافير، فيما يزين خيوط العنكبوت معظم المبنى الذى تكلف ملايين فى تشييده وتشطيبه، والمعدات لم تستخدم منذ افتتاحه فى عام 2008. «المستشفى بعد ما طوروها، خدوا المعدات وكل حاجة فيها، كان المفروض تخدم 60 ألف مواطن غير البلاد المجاورة، رحنا وجمعنا تبرعات علشان نجيب أجهزة الغسيل الخاصة بالفشل الكلوى، وكمان عاوزين نجيب حضانات»، هكذا بدأ الحاج عبدالمقصود نورالدين، أحد أبناء القرية، حديثه لـ«الوطن»، وأضاف «لقينا فى مبنيين مقفولين من سنين ما تفتحوش، قلنا نستغل المساحة دى ولو بالمجهود الذاتى؛ لأن فى ناس كتير من هنا بيغسلوا فى أماكن كتير زى طوخ وبنها وأجهور»، فجمع الحاج عبدالمقصود، ومعه العديد من رجال القرية، تبرعات لإنشاء وحدة غسيل كلوى خاصة بالقرية على نفقتهم الخاصة، «زى الريس ما قال نبنى بلدنا ونعلى بناها، الناس كتر خيرهم قطعوا من قوتهم وقوت عيالهم علشان يدفعوا تمن المكن والمستشفى بالكامل، وقدرنا نجيب جهاز اتكلف علينا 85 ألف جنيه، وفى جهازين تانيين محجوزين من ألمانيا، ومستنيين بس إننا نفعل الحجز وندفع باقى الفلوس»، ويستدرك بعدها بحسرة بدت عليه ليشرح كيف أن مجهود القرية ذهب للريح، عقب استيراد الجهاز منذ عامين، «وزارة الصحة ترفض أن تتسلم منا الجهاز، مع إننا جبنا أعلى نوع موجود فى السوق، ويتم استخدامه فى مستشفيات بنها وعين شمس وهو ferzinas 2004 4008، حتى لا نسمع من الحكومة أنه مخالف».
«صابرين»: «الغسيل بيتعبنى وأنا رايحة وجاية» و«نبوية»: «يوم فرح ابنى كنت بتمرغ على الأرض من المغص»
توجهنا إلى مديرية الصحة بمحافظة القليوبية؛ للسؤال عن سر رفض دخول الجهاز ليدخل إلى الخدمة العامة، «عندى 186 ماكينة غسيل كلوى، اشترينا 30 يبقى حوالى 216 جهاز غسيل جاهزين للتشغيل، وكل الناس اللى بيغسلوا فى مستشفياتى 750 مريض، والقوة الماكينية اللى عندى يغسل لـ1500 مريض، يعنى مش محتاج أى جهاز جديد»، والكلام لدكتور محمد لاشين، وكيل وزارة الصحة، الذى أوضح أن مشكلة القرية هى عدم وجود أطباء لتعيينهم فى تلك المراكز الصغيرة نسبياً «لو حابين يتبرعوا به لأى مستشفى كبيرة ماشى، غير كده لأ»، وعن سؤاله عن المستشفى غير المستغل بقرية العمار، فوجئ بذلك ثم قال «الأماكن غير مستغلة وهناك اقتراحات لذلك، أنا فى رأيى يكون فى مبادرة اجتماعية لحسن الاستغلال».
عدنا مرة أخرى إلى القرية نطرح على أهلها ما قيل لنا من المسئول لعلهم يتبرعوا بالجهاز «أنا بقله مابكلفكش حاجة، اعملها فى سنة اعملها فى سنتين، قولى هتتكلف كام وأنا معاك وأهل البلد لغاية ما أسلمك المستشفى على المفتاح مش ناقصة غير الدكاترة تشتغل فيها وبس»، حسب الحاج عبدالعليم الجزار، أحد القائمين على جمع التبرعات، مضيفاً «انت ليه مش عاوز تعمر معايا، المكان موجود والمريض موجود والجهاز موجود يبقى ناقص إيه؟ مفيش غير الدكتور هو اللى الدولة هتتحمله معانا، نجيبه إحنا يعنى؟!».
المرضى: مستشفى بلدنا لتنظيم الأسرة فقط والمتبرعون: «الحكومة ليه مش عاوزة تعمَّر معانا؟»
سخرت الحاجة نبوية بدوى من حديث وكيل وزارة الصحة «مش قولتلك يا بنى مش هيعملوا لنا حاجة، والله فرحنا لما قالوا الوحدة هتشتغل، بقيت أبص للناس وأقولهم خلاص مش هانجيلكم تانى، انتوا اللى هتيجوا بلدنا علشان تتعالجوا، بقينا عاملين زى السمك الكبير بياكل الصغير، مافيش رحمة»، سكتت الحاجة نبوية للحظات ثم حكت أصعب موقف مر عليها منذ إصابتها بالفشل الكلوى «لا عارفة أروح فرح ولا أروح ميتم ولا عارفة أشوف أمى، ليلة فرح ابنى كنت بتمرغ فى الأرض والناس من حواليا نفسهم ينجدونى من كتر المغص الكلوى ما كان بيقطع جتتى». انتهت جولة «الوطن» فى القرية بعد يومين بحثت فيهما عن إجابة منطقية لعدم مشاركة الحكومة لجهود مواطنين يحلمون بالتبرع لإنشاء وحدات غسيل للكلى بها ما يقرب من ستة أجهزة، بالإضافة إلى حضانات أطفال، وعربة إسعاف، ومستشفى متطور ينافس المستشفيات الجامعية، لكن هذا الحلم تبخر، ولم يتبق منه سوى جهاز سليم للغسيل الكلوى لم يستخدم منذ عامين، وجهازين آخرين تم حجزهما بألمانيا، ولم يتم التعاقد النهائى حتى الآن لاستيرادهما، وقليل من الأموال التى جمعت فى السابق، وحسرة كبيرة تعلو الوجوه حين تتحدث معهم عن حلم مبتسر دمرته البيروقراطية الحكومية.
العنكبوت عشش على دورات المياه
صابرين
هانم