(1)
كنتُ مع الدكتور أحمد زويل فى مدريد، وكان الدكتور زويل يلقى محاضرة علمية فى أكاديمية العلوم بحضور نخبة من علماء أوروبا.
فى مدخل المبنى التاريخى الذى شهِد المحاضرة.. كان بعض الحضور يلتقطون صوراً تذكارية مع كتاب مفتوح.. تم وضعه باحترامٍ كبير فى إطار زجاجى مرتفع يمنحُه مهابةً ومكانة.
كان ذلك الكتاب نسخةً أصلية من عملٍ علمى مهم للعالم الإيطالى الشهير «جاليليو».
أخذت صورةً تذكارية مع الكتاب بعد أن فشلت فى فهم الصفحتين الظاهرتين من الكتاب. لكننى لاحظت - فيما بعد - أن بعض العلماء الأوروبيين يقارنون بين الدكتور زويل الذى توصّل إلى الميكروسكوب رباعى الأبعاد وعن أبحاثه فى «الأشياء متناهية الصِّغر» عبر «الزمان متناهى القصر» وهو الفمتوثانية «واحد على مليون على بليون من الثانية».. وبين «جاليليو» الذى توصل إلى التليسكوب.. وعن اكتشافاته فى «الأشياء متناهية الكِبر».
يعمل «جاليليو» من التليسكوب الذى توصّل إليه، ويعمل «زويل» من الميكروسكوب الذى توصل إليه.. يبحث الأول فى الفضاء الفسيح داخل الكون، ويعمل الثانى فى الفضاء الفسيح داخل الذرة.. وداخل الخليّة.
(2)
منذُ شاهدتُ كتاب جاليليو «الأصلى» فى مدريد، وأنا أتطلع لقراءة ما يقع تحت يدى عن «أبو العلم الحديث» كما وصفه «ألبرت أينشتاين». ولقد قرأتُ عن صراعه مع الكنيسة بعد أن قام بتأييد نظرية «كوبرنيقوس» من أن «الأرض تدور حول الشمس».
كانت هذه واحدة من أكبر معارك العلم التى أسهمت فى انطلاق العصر الحديث.. كان «كوبرنيقوس» ثم «جاليليو» ومعهما عدد قليل يرون أن الأرض تتحرك، وليست ساكنة، وأنها جُرم يدور حول الشمس.. وليست هى محور الكون.
وكان تقدير رجال الدين وقتها أن هذا «كُفر» وأنه يناقِض ما جاء فى «الكتاب المقدس».. وهو ما قاد إلى التضييق على جاليليو، ثم محاكمته، ثم إدانته.. وحبسه.. ثم تحديد إقامته حتى وفاته.
لقد اعتذرت الكنيسة فيما بعد.. واليوم يوجد تمثال لجاليليو فى الفاتيكان، وقد امتدحه عدد من البابوات الكبار.. اعتزازاً وتقديراً.
(3)
لقد صُدِمت حيت قرأت مؤخراً.. عن اضطرار «جاليليو» لنفاق السلطة.. وعن تجاوزه العلم من أجل إرضاء الملِك.
وتبدأ القصة من اكتشاف «جاليليو» لأقمار كوكب المشترى. يقول مؤرخون: كان «جاليليو» قد بات مستاءً للغاية من طريقة حصوله على الهبات والعطايا من النبلاء، كما كان يفعل كل علماء عصر النهضة.
كان علماء عصر النهضة يقومون بإهداء اكتشافاتهم للرعاة من أصحاب السلطة والمال.. وكان ذلك محرجاً للعلماء.. فقرر «جاليليو» أن يلجأ إلى صاحب سلطةٍ واحد ينافِقُه ويؤيده.. من أجل استمرار الدعم المالى لأبحاثه.
كان يحكم إيطاليا فى ذلك الوقت «الملك كوزمو الثانى» ابن «الملك كوزمو الأول».. وكان «الملك كوزمو الأول» قد أسّس حكم «آل مديتشى» عام 1540 واتخذ كوكب المشترى رمزاً لسطوته.
حوّل جاليليو اكتشافه لأقمار المشترى إلى نفاق الملك.. كان للملك «كوزمو الأول» أربعة أبناء: «الملك كوزمو الثانى» وثلاثة إخوة.. قال جاليليو: «هذه الأقمار الأربعة التى تدور فى فلك المشترى كما يدور الإخوة الأربعة حول كوزمو الأول.. إن السماء نفسها تعلن تصاعد مجد كوزمو الأول والأبناء الأربعة.. إنها ليست مصادفة»!
قام الملك كوزمو الثانى بتعيينه فيلسوفاً ورياضياً رسمياً للبلاط الملكى براتب كبير.. ومن وقتها لم يعد «جاليليو» يحتاج إلى استجداء النبلاء والرعاة.
(4)
قصة «جاليليو» هى قصة العلم والأدب والثقافة فى كل عصر.. إذا لم تؤمن الدولة بالقوة الناعمة كالقوة الصلبة.. فإن الرّعاة والمُمولون فى الداخل والخارج.. يسيطرون ويتاجرون.
(5)
لقد حلّت «السفارات» و«وكالات الإعلان» ومكاتب «رجال الأعمال» و«أقسام العلاقات العامة فى الشركات».. محلّ النبلاء والرعاة.
القوة الناعمة هى مسئولية الدولة.. إذا ما أرادتْ أن تطلق مشروعاً حضارياً حقيقياً.
الرُّعاة لا يبنون الأوطان.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر