صباح السبت الماضى أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى إشارة البدء لمشروع تنمية محور قناة السويس، وقد اتضح لكل من تابع استعراض المشروع عبر الفضائيات أو الصحف، ولكل من علم به قبل أن يذهب الرئيس إلى هناك للإعلان عنه رسمياً، أنه ليس مجرد مشروع واحد، ولكنه جملة مشاريع عملاقة، كل واحد منها يكفى لأن يدفع فى عروقنا وأرواحنا طاقة أمل جبارة، وكل واحد منها يصلح لأن يكون نموذجاً مبهراً لإرادة البناء والتنمية فى زمن الخراب الذى ضرب المنطقة كلها ودمر دولاً بكاملها وحطم جيوشها وهدم بيوتها ومصانعها وشرد شعوبها فى أرجاء المعمورة.
أن تبنى الأمم حاضرها ومستقبلها فى أزمنة الرخاء والاستقرار، فهذا شىء عادى لا يستحق أكثر من توجيه خطاب شكر أو شهادة تقدير، ولكن أن تتمكن مصر -بإرادة رئيسها وبالاعتماد على قواتها المسلحة الباسلة- من تدشين هذا العدد الضخم من المشروعات العملاقة، فى الوقت ذاته الذى تخوض فيه حرباً من أبشع الحروب التى عرفتها الإنسانية طيلة تاريخها، فهذا ليس مجرد إنجاز عادى، إنه فى الحقيقة معجزة إنسانية تتحقق أمام أعيننا، ولكننا جميعاً كنا مشغولين عنها بقضايا أخرى، تصورنا -أو هناك من لهم مصلحة فى أن يصوروا لنا- أنها أكثر أهمية وأكثر إلحاحاً، وأننا ينبغى أن نتوقف عندها مراراً وتكراراً وأن نشبعها نقاشاً واختلافاً وصراخاً، حتى نفيق على الخراب وقد أطاح بكل شىء مثل إعصار مدمر.
منذ عدة سنوات، ونحن نتفرج بقلوب تحجرت، على مشاهد القتل والتدمير والتهجير القسرى واغتصاب النساء وبيعهن فى أسواق النخاسة.. ومنذ أكثر من عام ونصف ونحن نتابع فى بلادة أخبار انهيار أسعار نفط دول الخليج، وزيادة مبيعات السلاح لهذه الدول.. فى الوقت الذى يتمدد فيه تنظيم داعش الكافر مثل سرطان متوحش فى العراق وسوريا وليبيا وسيناء وباريس وبلجيكا ومالى وتونس والسعودية.. ورغم أن عدداً من الكتاب المحترمين توقفوا طويلاً عند هذا التمدد المريب، وتوقفوا عند التمثيلية المنحطة للتحالف الدولى الذى تقوده أمريكا، والذى يدّعى أنه يحارب داعش، بينما هو فى الحقيقة يدمر أوطاننا ويشرد شعوبنا بسلاح تنتجه أمريكا وتأخذ أمواله من دول الخليج.. فإن كل هذه الكتابات المحترمة تلاشت مثل أصداء واهنة فى فضاء الصراخ والقضايا التافهة المفتعلة التى يتبناها بعض نجوم الفضائيات وضيوفهم التافهين.
ومنذ أسابيع بدأت الحرب على مصر تدخل مرحلة جديدة وتأخذ صوراً أخرى، بعد أن تصدى الجيش المصرى ببسالة مذهلة لكل صور الحرب الأخرى المباشرة وغير المباشرة.. فى الوقت الذى كان يقود فيه مسيرة الزحف الأخضر ومسيرة التعمير وتشييد الطرق وحفر آلاف الآبار فى الصحارى، وإنشاء أنفاق وسحارات مياه أسفل قناة السويس، وبناء وتوسعة مطارات مدنية وعسكرية، وإنشاء مناطق عمرانية واقتصادية جديدة تمثل بداية طريق مصر إلى الخروج من الحيز المخنوق والمكتظ فى الوادى والدلتا.
فى قلب هذه الملحمة الإنسانية الفذة توالدت، مثل فطريات العفن، بعض دعوات الاحتشاد لثورة جديدة ضربوا لها موعداً فى 25 يناير المقبل، وهى دعوات اعتمدت منذ انطلاقها على تضخيم معاناة الناس من انفلات الأسعار، وتضخيم حالات التعذيب والقتل فى أقسام الشرطة، وتنبيه الناس إلى أن الفساد فى مصر لم يتراجع وإنما يكتسب أرضاً جديدة، ثم جاءت انتخابات مجلس النواب بما شهدته من توحش شراء أصوات الفقراء، لتضفى قدراً من «المشروعية» على حالة الاحتقان الشديد لدى شريحة واسعة من الشباب.
والحقيقة التى لا يمكن أن يغفلها إنسان لديه ذرة من ضمير، أن وقائع اعتداء بعض ضباط وأمناء الشرطة على المواطنين المحترمين فى الشوارع وأقسام الشرطة، ووقائع سلب بعض أمناء الشرطة لأموال المواطنين علناً، أصبحت عبئاً أخلاقياً لا يطاق، ولا يمكن لنا أن نبرره أو نتسامح بشأنه، وفضح مثل هذه التصرفات وإرغام وزارة الداخلية على إحالة مرتكبيها لمحاكمات حقيقية، هو عمل لا يقل وطنية عن دعوة الشعب المصرى للوقوف صفاً واحداً والحفاظ على وحدة الجبهة الداخلية، فى مواجهة قوى الشر التى تتلاعب بالشباب وتدعوه إلى جولة جديدة من ثورة.. ستنتهى حتماً -لو حدثت لا قدر الله- إلى أفظع ما عرفه المصريون فى تاريخهم من انهيار وخراب!
والمحصلة، أن الدعوة إلى ثورة أخرى ليست أقل من خيانة صريحة وواضحة لكل مقدرات هذه الأمة، وأن الغفلة فى هذا الظرف العصيب أسوأ من الخيانة ذاتها، لأن المغفلين الأبرياء هم دائماً وقود الخراب الذى يشعله الأشرار.. وأن الثورات الوحيدة التى ينبغى أن نتكاتف لإنجازها فى دأب وإصرار، هى أن نبذل أقصى ما نستطيع لمحاكمة القائمين بالتعذيب، والتصدى للفساد الإدارى، وإصلاح منظومة التعليم ومنظومة الصحة، وأن نواصل البناء رغم أنف كابوس الخراب الذى تواصل أمريكا وإسرائيل زرع بذوره فى تربتنا.. دون أن نغفل لحظة واحدة عن حقيقة أننا -شعباً ووطناً ودولة- نخوض حرباً من أبشع الحروب، إذا انشغلنا عنها بأمور تمزق وحدتنا، فسوف يكون هذا بداية الطريق إلى النهاية الكارثية.. لا قدر الله.