ليس وحده بل هو نموذج فى مؤسسة أقسمت قلوب المنتمين لها ألا تلتفت إلا لقضية حماية الأرض والعرض، ليس وحده ولكنه نموذج لما يعانيه أفراد مؤسسة سددوا واجباتهم تجاه الوطن منذ أن كانت أعمارهم لا تتجاوز الثامنة عشرة، فلم يحيوا حياة الحرية ليفعلوا ما أرادوا أو كما عاش أقرانهم، ولكنهم عاشوا حياة الجدية والجندية ليظلوا دوماً وطيلة حياتهم «تحت الطلب»، حديثى اليوم يا سادة عن وصية المقدم محمد هارون الذى استشهد منذ نحو أسبوعين فى العريش فى تفجير بعبوة ناسفة، لأقارن بينه وبين من يشعلون حرائق التغييب كل ليلة على شاشات القنوات، وكل منهم يؤكد حينما يسمع نقده أنه رقم 1 فى الإعلانات! شتان بين قائمة «هارون» المدينة بأرقام هزيلة، وبين قائمة تجار العقول ممارسى التغييب بدعوى أن كلاً منهم الأول بين مقدمى البرامج فيما يحصده من إعلانات! ولا يهم العقل ولا القيمة ولا شرف الكلمة. المقارنة ظالمة لمن دفع حياته ثمناً لنعيش وتحيا البلاد وبين هؤلاء منتفخى الريش، ولكنها واجبة ليدرك المغيبون والمغرضون رواتب الجيش المصرى وأفراده التى لا يملون الحديث عن أنها بالآلاف!
ونبدأ بسيرة المقدم «هارون» ووصيته التى وجدوها فى جيب «أفروله»، كان قد تزوج منذ شهر واحد قبل وفاته وكان مديناً بمبلغ ألف جنيه للأستورجى الذى صنع له أثاث بيته، فطلب من ذويه سداد المبلغ، كما أخبرهم عن قسط السيارة التى يسدد ثمنها كل شهر لبنك مصر بقيمة 1500 جنيه، وضرورة التبرع بنصف مكافآته لوجه الله علَّه يكون مديناً بديون لا يتذكرها، ورغم أنه طالبهم بسرعة دفنه فإنه استوصاهم ألا يدفنوه إلا بعد سداد ديونه، لينزل قبره مسدداً ما عليه، نعمت يا ولدى فى الآخرة بالراحة التى لم ترَها فى الدنيا، ومنحك الله رضاه وجنته يوم العرض عليه، ودع عنك كلمات المغرضين والفارغين من كل معنى وانعم بهدوء عالمك الآخر لحين نلقاك، ولكن دعونى أسأل من يتحدثون عن رواتب الجيش الضخمة، وهى ليست كذلك، كم تدفع مقابل حياتك؟ كم تدفع مقابل غيابك عن كل المحيطين بك لأيام طويلة لا تعلم ولا يعلمون موعداً لعودتك؟ رحم الله أرقاماً كانت فى الأصل شخوصاً تمشى بيننا وتملأ الحياة أخباراً، رحم الله المجاهيل ومنحهم الجنة والخلود.
وننتقل يا سادة إلى قائمة أرقام أخرى تضم الأصفار الستة فى راتبها، ولكن لا يتحدث عن المبالغة فيها المغيبون والمحرضون والمغرضون، قائمة أرقام تصنعها تفاهة الطرح وسماجة الفكر واختلاق الأزمات لزيادة مساحة الإعلانات، ولا يهم أن تكون على حساب الوطن والمواطن اللذين يدعى أصحاب تلك القائمة ذات الأصفار الستة -زوراً- الدفاع عنهما. فما يعنى ممارسى التغييب الفكرى والخلقى فى بلادى أنهم يحتلون صدارة الإعلانات فى تلك البرامج الممولة من رعاة لا يعنيهم هم الآخرين حضور الوعى والخلق، ولكن يعنيهم المزايدة على من يحلق حوله الغوغاء بنفس منطق صراع الديكة! لتتوه فى معالم المشهد الحقيقة والمعلومة والقيمة، فتكون النار هدفاً بغض النظر عما ستخلفه وراءها! وتكون الفضيحة وتدنى الحوار مساراً بغض النظر عما تتركه من ندوب فى المواطن والوطن! المهم أن تكون رقم 1 فى الإعلانات، وبالتالى فى قيمة ما تحصل عليه بين بهلوانات الفضائيات، وجميعهم بالمناسبة يبثك خبراً بينك وبينه بأنه رقم 1 فى الإعلانات وأن الآخرين يأتون بعده بمسافة بعيدة!!
وهكذا يا سادة توضح لكم المقارنة بين أرقام المقدم محمد هارون وأصفار لبهلوانات الإعلانات حجم القيمة فى كليهما. ولذا فدعائى اللهم ارحم «هارون» واحشرنا معه وقد سددنا ما علينا، واعرضنا عليك مستورين.