لا يوجد مستقبل سياسى لبلادنا من غير الاقتصاد، ولا مستقبل اقتصادى لبلادنا من غير العلم.. ولا مستقبل علمى لبلادنا من غير التعليم.
إنه التعليم إذاً.. أساس المشروع الحضارى المصرى.
(1)
يواجه التعليم فى مصر محنةً كبرى.. جانبٌ من هذه المحنة يتعلق بالمدرِّس، وجانبٌ منها يتعلق بالمدرسة.. ولكن الجانب الأكبر من المحنة هو القوة الناعمة «الفاشلة» فى مصر. ذلك أن أى تعليمٍ وأى منشآت تعليمية لا يمكنها أن تصمُد فى وجه هذا المستوى من الإعلام.. والسينما والدراما.
لا يمكن لأىّ ضوءٍ مهما كان وهجه، ومهما كانت كثافته أن ينير شيئاً وسط هذه الظلمات الثلاث. ما المعنى فى أن تتطور المناهج، ويتأهل المدرس.. وترتقى المدرسة.. ثم يذهب التلاميذ والطلاب إلى السينما فيشاهدون كل هذا الكم من التدمير العقلى والأخلاقى.. أو أن يجلسوا فى المنزل فتتوالى أمام أعينهم مسلسلات رخيصة.. وبرامج ركيكة.. تعمل جميعها على نسفِ العملية التعليمية برمتها.
إن ما يتعلمه طلابُنا بالنهار يأتى عليه إعلامنا بالليل.. يُصبح التلميذ فى مصر على إشراقةِ الأمل.. ويُمسى على ظلام اليأس.. تَمضى الشاشة الصغيرة والكبيرة بـ«أستيكةٍ» عملاقةٍ على الفصول والمكتبات!
(2)
إن إصلاح التعليم يبدأ من الشاشة.. ما الذى يمكن أن يزرع الطموح.. ويؤسس القيم لدى طلابنا.. إذا كان المثل الأعلى شخصاً تافهاً.. أو فناناً رخيصاً.. أو بطلاً مجرماً؟ ما الذى يُقنِعه بالتعليم والاجتهاد.. ليصبح طبيباً أو مهندساً أو محاسباً أو ضابطاً أو قاضياً.. إذا كان الجهلاء يكنزون الملايين بينما هو فى هذه الوظائف.. إذا تمكن منها.. لن يتجاوز الحد الأدنى للحياة بكثير؟
ما القيمة التى تعوِّض تلاميذنا.. إذا ما سهروا الليالى مذاكرةً واطلاعاً.. إذا ما كانت وظائفهم فى المستقبل لن تكون شيئاً إلى جوار ملايين وشهرة ونفوذ يمتلكها الذين لا يعلمون ولا يعملون؟
ما الذى يُغرى الموهوبين للإبداع والابتكار.. إذا كانت إبداعاتهم ستلقى حتفها عند جهلاءٍ أو بؤساء.. لا علم عندهم أو لا حيلة لهم؟.. ما الذى يُغرى الموهوبين الأبرياء للعمل الجاد فى مجتمع يتصدّر فيه تحالف عديمى الموهبة؟
(3)
إن الأمل صناعة.. ليس الأملُ قوةً شخصية أو طاقةً نفسيّة فحسب.. بل إن «صناعة الأمل» مثل الصناعات الثقيلة.. خططٌ وموارد.. معرفةٌ وعزيمةٌ. وإذا فقدتْ الأجيال الجديدة الأمل.. فإننا نصبح أمام وطن يتآكل.. مستقبلُهُ وراءه.. سيرتع كبار السن والمكانة بضَع سنين.. ثم تتسلم الأجيال الجديدة.. وطناً مهزوماً من داخله.. هزَم نفسه بنفسِه.. دون حاجة إلى عدِّو خارجى.
إذا فقدتْ الأجيال الجديدة الأمل.. فانكفأت على ضلالات الفيس بوك.. أو غابت فى خيالات الدخان الأزرق.. أو ذهبْت إلى أعداء الدين والحياة.. ناقمةً ومنتقِمةً.. أو اعتكفتْ أمام أبواب السفارات بحثاً عن تأشيرة خروج.. أو تجمّدتْ فى أمواج البحر هرباً من المجهول إلى المجهول. إذا فقدت الأجيال الجديدة الأمل.. يصبح الأمن القومى كله فى خطر.
(4)
أدركُ تماماً حجم الجهود المخلصة لاستعادة الأمل فى بلادنا.. بعد أن كادتْ تنزلق خارج التاريخ.. ولكن ربّما يتوجّب التكرار من جديد.. حلُّ السياسة فى الاقتصاد، وحلُّ الاقتصاد فى العِلم.. وحلّ العلم فى التعليم.. ونكبة الجميع فى الظلمات الثلاث.. السينما والدراما والإعلام. نكبة الجميع فى أبطال الظلمات الثلاث.. المجرمون والمدمنون والبغايا!
(5)
إن المشروع الحضارى المصرى فى الجمهورية الثالثة.. لن يتمكن من المُضىّ قدماً.. إذا استمر طغيان الشاشات على المكتبات.. والبرامج على المدارس.. وإذا ما جفّت الأحلام فى عيون الصغار.
اليأس خيانة والأمل وطن.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر