إذا كان الهدف من تعليم التاريخ المصرى لأولادنا هو أن يحفظ الطالب عن ظهر قلب أنه فى يوم كذا حدث كذا.. وأسباب ونتائج الحدث.. ولماذا وعلل وفسر فنحن سنواصل المسيرة المتخلفة لتخريج شباب يكره تاريخه، وهو مقتنع تماماً بعدم جدوى هذه الدراسة وتفاهتها لأنه بعد أداء الامتحان بأيام معدودة لن يذكر كلمة واحدة من كل ما جاهد فى حفظه وتسميعه بلا فهم ولا رؤية.. والمفترض أن دراسة التاريخ لشباب أى دولة هدفها تأكيد الهوية والقومية وتزكية حب الوطن وتأكيد الانتماء له.. ولن يكون هذا دون التركيز على الرجال الوطنيين بالمزيد من الاهتمام وزيادة المعلومات عنهم وعن الأحداث الوطنية، وهى موجودة فى كل العصور والأزمنة، وعرضها وكتابتها بطريقة إنسانية ومشوقة يكون لهما فعل السحر فى نفوس الصغار والشباب على السواء.. وعلى سبيل المثال: كيف يوجد السيد «محمد كريم» فى منهج الثانوية العامة للتاريخ؟.. فى سطر واحد: (كان أهالى الإسكندرية بزعامة السيد محمد كريم، حاكم المدينة، قد واجهوا قوات الغزو، ولهذا اعتقلته القوات الفرنسية، ثم أُعدم رمياً بالرصاص فى 6 سبتمبر 1798).. وفوراً سوف يطرح الطالب سؤالاً: كيف تكون الحملة الفرنسية قد نزلت إلى الإسكندرية يوم 2 يوليو وسيطرت على مقاومة الأهالى، وتحركت إلى القاهرة فى اليوم السابع من يوليو، ثم يعدم السيد محمد كريم فى السادس من سبتمبر، أى بعد مرور شهرين كاملين؟ إذاً كتابة الحدث بهذا الشكل خطأ فادح لأن إعدام السيد محمد كريم، حاكم الإسكندرية، لم يكن بسبب مقاومته هو وأهالى الإسكندرية للغزو الفرنسى.. وهذا السطر العقيم المخصص لهذا البطل المصرى العظيم مع المقارنة بما كُتب عن «كليبر» أو «مينو» أو حتى «مراد بك»، المملوك الهارب إلى الصعيد، فى نفس المنهج يعتبر نوعاً من العبث بعقول الشباب والاستهانة بالنماذج الوطنية البراقة تقترب إلى درجة الخيانة الوطنية.. والحقيقة المكتوبة فى أمهات كتب التاريخ والتى أخذت عنها هذه المناهج المريضة موجودة وتحكى حكاية السيد محمد كريم.. وإلى الحكاية:
فى يوم 28 يونيو 1798 جاء الأميرال نيلسون، قائد الأسطول الإنجليزى، يبحث عن الأسطول الفرنسى فى الإسكندرية فلم يجده.. فأرسل إلى حاكم الإسكندرية السيد محمد كريم -وكلمة السيد هنا لأنه من السادة الأشراف- أرسل له يسأله الإذن فى دخول ميناء الإسكندرية ليحمى مصر من الفرنسيين القادمين فى الطريق.
رفض السيد محمد كريم، وظن أن هناك خديعة، فقد كانت المعلومة التى وصلت إليه أن الإفرنج قادمون، وهذه الكلمة تعنى الأوروبيين عموماً.. خاف من وجودهم، ورفض وحدثهم بخشونة، ورفض أيضاً إمدادهم بالماء والزاد مقابل الأموال، وغادروا الإسكندرية بالفعل.. وفى يوم 1 يوليو 1798 نزل بونابرت بقواته فى ساحل العجمى غرباً وأصبحوا يوم 2 يوليو فى الإسكندرية، وكانت مقاومة مشرفة من الأهالى والمغاربة والمماليك وكبدت الفرنسيين خسائر فى الأرواح، وكل هذا بقيادة السيد محمد كريم، ولكن كانت سياسة نابليون المهادنة ومحاولاته لكسب الأهالى سبباً فى الاجتماع بمشايخ المدينة وأعيانها وحاكمها محمد كريم، ورد بونابرت له سلاحه، وقال له: «لقد أخذتك والسلاح فى يدك وكان لى أن أعاملك معاملة الأسير ولكنك استبسلت فى الدفاع عن بلادك والشجاعة دائماً ما تكون متلازمة مع الشرف.. لذلك أعيد إليك سلاحك وآمل أن تكون مخلصاً للجمهورية الفرنسية مثلما كنت مخلصاً لحكومة سيئة».. وترك محمد كريم حاكماً على الإسكندرية كما كان.. وقال أحد شهود العيان عن «كريم»: (إنه يكتم عواطفه عنا وملامحه توحى بالذكاء والدهاء ولكنه تأثر من عفو بونابرت عنه).. ورغم محاولات «كليبر» كسب قلوب المصريين ومعاقبة الجنود الفرنسيين الذين يعتدون عليهم وعلى ممتلكاتهم فإن روح الكراهية للفرنسيين كانت تظهر كلما سنحت الفرصة.. عين نابليون فرقة عسكرية طوافة تسير من الإسكندرية إلى دمنهور ثم إلى رشيد إلى أبوقير للاطمئنان على سلامة طرق مواصلات الجيش الفرنسى.. وفى يوم 17 يوليو قامت الكتيبة إلى دمنهور ولم يزودها الأهالى بالماء أو الزاد وهرّب الأهالى الجمال حتى لا يستعين بها الفرنسيون فى التحرك، ثم هاجمتهم فرقة من البدو فأرسل قائد الكتيبة للقيادة يقول إن الجمال قد اختفت تماماً من الإسكندرية وظهرت بعد مغادرة الفرقة وإن هناك تواطؤاً بين الأهالى والمقاومة تزداد من قرية لأخرى ولا بد أن هناك من يبلغهم بقدوم الجنود الفرنسيين، وعادت الفرقة مرة أخرى إلى الإسكندرية بعدما فقدت من القتلى ثلاثين غير الجرحى.. بدأ كليبر يرتاب فى السيد «محمد كريم» وتم اعتقاله واتهامه بخيانة القائد العام.. وأمروا بمصادرة أملاكه وأمواله، وقرروا أنه من الممكن أن يفدى نفسه بدفع 300 ألف فرنك فرنسى ليبقى معتقلاً، وإذا لم يدفع ثلث المبلغ سوف يُقتل رمياً بالرصاص، رفض محمد كريم وأرسلوه إلى القاهرة، وخفض نابليون المبلغ إلى 30 ألفاً فرفض ونصحه مستشرق فرنسى كان معه قائلاً: إنك رجل غنى فماذا يضيرك أن تفتدى نفسك بهذا المبلغ؟ فقال كريم: إذا كان مقدوراً علىّ أن أموت فلن يعصمنى هذا المبلغ من الموت وإذا كان مقدراً لى الحياة فلماذا أدفعه؟ ونُفذ فيه حكم الإعدام رمياً بالرصاص فى ميدان الرميلة.. والحقيقة أن كريم اعتبر أن فداء حياته بالأموال إهانة لكرامته لا يتحمل أن يعيش بها.. وعلق أحد الفرنسيين على هذه الحادثة بقوله: «إن إعدام هذا الشريف هو أول عمل يوجه التهم إلى نابليون فى حملته على مصر.. وإن الكثيرين قد تأثروا للخاتمة المحزنة التى انتهت بها حياة ذلك الشريف النزيه».. وأخيراً هل يجوز أن يختصر هذا البطل فى سطر واحد فى منهج الشباب الذى يقف على أعتاب الجامعات وسطر خاطئ ومبتسر؟.. ثم تتساءلون عن انتماء الشباب لبلاده؟