القراءة أصبحت نشاطاً مملاً غير محبب لكثير من الناس، وإذا سألتهم عن السبب لأجابوك أنهم لا يجدون فى الصحف شيئاً جديداً يستحق عناء القراءة، فالأفكار القديمة يعاد تدويرها فيما الواقع يراوح مكانه. البعض الآخر من القراء قد يرد على سؤالك بشأن أسباب إحجامه عن القراءة بسؤال مضاد: وما الفائدة من القراءة؟ وهل ستغير شيئاً فى واقعنا غير السعيد؟
القراء على حق، فالأفكار أصبحت قديمة مكررة ومملة، وهى بالتأكيد محدودة النفع، ليس بسبب عيب فى الكتابة والكتّاب، ولكن بسبب عيوب فى الحكومات والقائمين على الأمر. فالكتابة ليست عملاً إبداعياً يقوم به الكاتب حسب موهبته، لكنها حوار بينه وبين القوى الفاعلة فى المجتمع من صناع السياسات ومتخذى القرار وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدنى ومثقفين، وهؤلاء هم الجمهور الذى يتوجه له أغلب من يكتبون بكتاباتهم، ولهؤلاء أسبابهم التى تمنعهم من أخذ الأفكار المنشورة بجدية، الأمر الذى يقتل التفاعل، ويحول الكتابة إلى ممارسة ذاتية يمارسها أصحابها من أجل متعتهم الخاصة أو لأغراض أكل العيش.
خذ مثلاً مشكلة التعليم المزمنة، وراجع كم المقالات والدراسات التى اقترحت حلولاً لهذه المشكلة، ومع هذا فإن المشكلة ما زالت قائمة وتزداد سوءاً، وما زال الكتاب المشغولون بهذه القضية يقترحون الحلول نفسها مع بعض التطوير هنا وهناك. ما يكتبه أصحاب الرأى ما زال ملائماً وذا قيمة لأن المشكلة ما زالت قائمة، لكن القارئ من كثرة ما قرأ الكلام نفسه والاقتراحات ذاتها فإنه يتعامل مع ما ينتجه الكتاب باعتباره مجرد كلام عديم القيمة، فيكف عن قراءته لسببين، أولهما لأنه سبق له قراءة الكلام نفسه، وثانيهما لأن الكلام الذى لا يغير الواقع يصبح مجرد كلام أو «طق حنك» كما يسميه أهلنا فى المشرق العربى. فالمشكلة ليست فى الكاتب الذى يكتب كلاماً مكرراً، ولكن المشكلة هى أن الكاتب مضطر للتعامل مع المشكلة نفسها التى تعامل معها أجيال من الكتاب والدارسين قبله، وأنه مضطر لكتابة كلام يشبه ما كتبه الأقدمون لأن ما كتبوه كان صحيحاً وصائباً فى وقته وما زال صحيحاً وصائباً فى وقتنا هذا.
المشكلة إذاً ليست فى الكاتب ولكنها فى الواقع الذى يرفض أن يتغير، وحتى نعلق الجرس فى رقبة القط، فإن المشكلة الحقيقية هى أن أصحاب القرار ومن بيدهم القدرة على التغيير لا يقومون بدورهم، فتظل المشكلة قائمة، ويظل الكاتب يردد الكلام نفسه لدرجة الملل.
صناع القرار وأهل الحكم مشغولون بهموم الإدارة العقيمة عن متابعة الأفكار التى إذا وجدوا وقتاً لمتابعتها فلن يمكّنهم الجهاز الإدارى العقيم من تطبيقها لأن الموظفين يرفضون تغيير طريقتهم المعتادة فى العمل، أما الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى فهى كيانات غير مرحب بها فى واقعنا السياسى، وهى مشغولة بالدفاع عن بقائها، فلا يتبقى لها وقت أو طاقة لمناقشة الأفكار وتطويرها وتبنى ما يلائمها منها.
لا يبقى بعد ذلك سوى من تبقى من عموم القراء الذين يستحسنون هذا ويستنكرون ذاك من الأفكار، وقد يعبرون عن رأيهم هذا على شبكات التواصل الاجتماعى أو يناقشونها مع أصدقائهم، ولكنهم فى النهاية أفراد متفرقون ليس لديهم ما يحولون به قناعاتهم إلى فعل، اللهم إلا الفئة القليلة منهم التى قد تذهب للتصويت فى الانتخابات، أو التى قد تقرر الخروج للاحتجاج عندما تسنح الظروف.
لقد خرج المثقفون والخبراء بمئات الأفكار على مر العقود، لكن أفكارهم كانت تعجز عن إيجاد آذان تسمع داخل أروقة الحكم ودهاليز الحكومة. تحولت النبرة الهادئة إلى زعيق وصراخ علها تلفت نظر المسئولين وأهل الحكم. لم تنفع هذه الحيلة، ولم يتبقّ لنا سوى الصوت العالى الذى أصبح سمة لصيقة بالطريقة التى نكتب ونتحدث بها. استمر التصعيد، فلجأ البعض لإصدار أحكام قاسية على أولى الأمر لعلهم يستفزونهم للتفاعل، فوصفوهم بعدم الكفاءة والفشل علهم يلتفتون، ولم يفلح هذا أيضاً، ولم يتبق لنا سوى عدم الكفاءة والفشل صفات لصيقة بأولى الأمر. تواصل التصعيد، وتحول الاتهام بعدم الكفاءة إلى اتهام بالفساد فى محاولة جديدة للفت الأنظار وشد الانتباه، فلم تفد هذه المحاولة أيضاً، ولم يتبقّ لنا سوى الفساد تفسيراً لكل مشاكلنا، وتهمة محلقة فوق رؤوس أولى الأمر والموظفين.
وبعد أن انعدم الحوار بين أهله من المفكرين وأهل الحكم والسياسة والمجتمع المدنى، وبعد أن أصبح الصخب والصوت العالى والاتهامات والشكوك هى السمة السائدة، حل علينا زمن شبكات التواصل الاجتماعى، وانفتح المجال لعموم الناس للتعبير عما يعن لهم، فالتقط هؤلاء آخر ما وصل له ما يسمى بالحوار العام وأضافوا إليه إبداعاتهم، فتسيد الصوت العالى والسباب والاتهامات المشهد حتى غابت أو كادت أى مناقشة حقيقية للأفكار والبدائل، حتى إن البعض من الكتاب لجأ لاستعارة لغة التواصل الاجتماعى هروباً من الكتابة المملة، فانحظ الحوار العام كلية.
أطمئن الكتاب، فالعيب ليس فينا، أو على الأقل فهو ليس فى أغلبنا، ولكن العيب فى السياق الذى نكتب فيه. فإذا كان الحوار غائباً، وإذا كانت إمكانية اختبار الأفكار فى الواقع من خلال التطبيق شبه معدومة، تصبح الأفكار عديمة القيمة، ويواصل الغث منها البقاء إلى جانب ما هو جيد بغير سبيل لتمييز الغث من الثمين، فيصاب القراء بالإحساس بانعدام الجدوى والمعنى، وينصرفون عن القراءة والسياسة وكل شىء متصل بحياتنا العامة المشتركة.