صباح اليوم تبدأ المرحلة الأولى من استفتاء الشعب على واحد من أسوأ الدساتير التى عرفتها البشرية فى تاريخها المعاصر.. وصباح اليوم وعلى مدار اليوم كله سيتاح لكل مواطن أن يرى بعينيه ويسمع بأذنيه أكبر وأخطر عملية تضليل باسم الدِّين لتمرير هذا الدستور الكارثى الذى يجرد غالبية المصريين من كل حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية ويتركهم دون أدنى حماية فريسة سهلة ومهانة فى قبضة «الوحش الرأسمالى» الذى عثر فى جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسى ورئيسها على «وسيط» مضمون للإجهاز النهائى على ما تبقى لدى الطبقة المتوسطة من عافية أو قدرة على الاحتجاج.
نعم، هذا «الدستور» الذى يُساق الأميون والغلابة إلى التصويت عليه بـ«نعم»، هو جريمة كبرى لأنه يحتوى على مواد خطيرة تضمن للرأسمالية العالمية المتوحشة الحفاظ الكامل على مصالحها وتمكينها لأطول فترة ممكنة من مواصلة امتصاص رحيق الحياة ومص دماء الشعوب مقابل تمكين تيارات الإسلام السياسى من الانفراد بالسلطة.
لقد اختارت جريدة «الحرية والعدالة» لسان حال جماعة الإخوان وحزبها السياسى أن تشن حملة آثمة على كل الذين حذروا من استخدام الأميين والغلابة فى التصويت بـ«نعم» على دستور لم يقرأوا حرفاً منه، وإن قرأه لهم أحد فلن يدركوا أبداً خطورته على حاضرهم ومستقبلهم ليس لأنهم لا يملكون القدرة على الإدراك، ولكن لأن من كتبوا هذا الدستور بذلوا أقصى ما يستطيعون من جهد لإخفاء المضمون الوحشى للمواد الخاصة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية لغالبية المواطنين، وهى مواد منقولة حرفياً من توصيات تقارير البنك الدولى وصندوق النقد الدولى والغرف التجارية والصناعية، وقد بذلت هذه الجهات جهداً مضنياً طوال العشر سنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك لتمريرها فلم تتمكن من ذلك أبداً، والمخيف والمذهل أنها تمكنت من وضع توصياتها فى متن الدستور الذى كتبه علينا الإخوان بعد ثورة عارمة كان شعارها الأساسى: «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية»!
من بين هذه المواد وأكثرها تدميراً للحقوق التاريخية لكل العاملين فى القطاع العام والخاص والحكومى، المادة 14 من الدستور التى تنص على: «يجب ربط الأجر بالإنتاج» وهو وجوب يعلق مسئولية الإنتاج فى رقبة العاملين بأجر، ويعرضهم حتماً لتخفيض أجورهم فى الشركات الخاسرة والمتعثرة والمصالح الحكومية الفاشلة -وكلها فاشلة- وكأن العاملين يشتركون من الأساس فى إدارة هذه الشركات، ولعل كثيرين يذكرون أن المجلس القومى للأجور الذى تأسس فى عصر مبارك لم يتمكن أبداً من تمرير هذا النص الوحشى، وقد وقفت آنذاك كل القوى الوطنية ضد هذا التوجه وأصرت على عدالة «ربط الأجر بالأسعار».
ومن بين هذه المواد أيضاًً المادة 62 التى تحفل بإنشاء تافه عن الرعاية الصحية ثم تقرر فوراً: «تلتزم الدولة بتوفير خدمات الرعاية الصحية والتأمين الصحى وفق نظام عادل عالى الجودة، ويكون ذلك بالمجان لغير القادرين». وهذا النص الذى اختار كلمة «توفير» بدلاً من كلمة «تقديم» يطيح عملياً بحق المصريين فى العلاج المجانى على نفقة الدولة، ويقصر هذا الحق على «غير القادرين» وعلى كل مريض أن يستعد من الآن إذا مر هذا الدستور لتجهيز قفة أوراق وشهادات تثبت أنه غير قادر، وبعد أن ينجح فى ذلك يمكن لأتفه موظف أن يرمى بهذه الأوراق فى القمامة باعتبارها ملفقة.
إنهما مادتان فقط من كثير جداً يدمر ما تبقى للمصريين من الكرامة والأمان الاقتصادى والاجتماعى إذ مر «دستور الإخوان» الأكثر وحشية من الاستغلال الذى عرفناه فى تاريخنا كله.