ما إن بدأ «النخبوى» العتيد، والخبير السياسى، والمفكر الليبرالى، والمحلل الأيديولوجى، والمنسق العام لائتلاف «لليبراليون جروب» حديثه فى اللقاء التليفزيونى بكلمة «فى الواقع» حتى هتفت المذيعة الحسناء فى انبهار:
- يا سلام.. قلت فى الواقع.. فعلاً أنت «نخبوى» عظيم.. ماقلتش فى الحقيقة.. ماقلتش حيث إن.. ماقلتش بما أن.. ماقلتش أما بعد.. قلت فى الواقع.. فى الواقع إيه؟!
يردد فى كبرياء وأنفة واستعلاء:
- فى الواقع، أنا الأصدق والأشرف والأكثر نبلاً وجسارة وعمقاً من كل «النخبويين».. لا أناور.. ولا أخادع.. ولا أتلون.. ولا أبغى سوى وجه الحقيقة.. ومن عرف الحق عزّ عليه أن يراه مهضوماً.
- الله.. سيادتك فعلاً «نخبوى» عبقرى يمزج السياسة بالفلسفة.. فما رأى فيلسوفنا «النخبوى» فى الجدل المثار حول قانون الخدمة المدنية؟
هتف «النخبوى» بثقة وحرارة وتدفق:
- أخيراً، للأسف الشديد، انتصرت «دولة الموظفين» فى الجولة الأولى من معركتها الضروس ممثلة فى مجلس النواب ضد الحكومة وتم إلغاء القانون بأغلبية «322» نائباً فى مقابل «150» نائباً، وكانت النتيجة الأولية لهذا الإلغاء تتمثل فى تحمل الدولة ما يقرب من «17» مليار جنيه بحسب تقديرات الخبراء. والحقيقة أننى مستاء جداً لأن هذا القانون المفترض أنه أتى بنظام جديد فى التعيينات يختلف عن الأنظمة السابقة حيث يضمن الكفاءة والعدالة وعدم التمييز ومدى احتياج الوظيفة الحقيقى للمتقدمين لها دون تضخم معوق والتى يتم إقرارها فى شغل الوظائف العامة والاستمرار فيها، والترقى فى سلم درجاتها، ووضعت اللائحة التنفيذية للقانون بحيث يتم تجميع الاحتياجات الوظيفية قطاعياً على مستوى كل وزارة والجهات التابعة، ومحلياً على مستوى كل محافظة ومديريات الخدمات التابعة لها مع تحديد مسميات الوظائف وشروط عملها. ويتولى الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة الإعلان عن الوظائف الشاغرة والممولة لاحتياجات كل وحدة دون اعتبار لعلاقات القرابة أو المحسوبية أو الرشوة فى تولى الوظائف.. القانون إذاً بهذه الصيغة يأخذ بمفهوم التنمية البشرية واستحداث مجلس للخدمة المدنية ونظام لتقييم أداء الموظفين.. أى إن تمرير القانون -الذى تم إجهاضه بأغلبية مصحوبة بثورة غضب عاتية- يُعتبر بحق طوق نجاة للتخلص من الترهل الإدارى داخل مؤسسات الدولة والذى نتج عن العمل بقانون تم وضعه منذ عام «1964» ولم يتم تحديثه منذ «37» عاماً. الأمر الذى أثّر على مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين بينما يتميز قانون الخدمة المدنية -المغضوب عليه- باستغلال قدرات العاملين بالشكل الأمثل تمشياً مع نظم الإدارة الحديثة حيث يحدد الأداء انضباط ودقة التنظيم تحقيقاً لأهداف محددة ساعياً إلى التطوير.. والقانون بهذا الشكل ملائم للسياسات التى أعلن الرئيس السيسى فى حملته الانتخابية تدعيمها لإعادة بناء جهاز الدولة المترهل.
إن ردود الفعل الغاضبة من القانون تكرس لامتداد وتدعيم ورسوخ البيروقراطية الذميمة والاحتفاء بالتدنى العام فى الأداء الوظيفى وانتشار الفساد الإدارى والقضاء على أى رغبة فى التطوير بحجة المحافظة على حقوق واستحقاقات سبعة ملايين من الموظفين الذين يوقّع نصفهم فى دفاتر الحضور والانصراف والزمن بينهما يقضونه على المقاهى والتسكع فى شوارع المعمورة.
ينهى «النخبوى» العتيد الحوار ويسرع خارجاً من البلاتوه فى رشاقة وحيوية.. يلهث خلفه صبى يحمل حقيبة جلدية منتفخة بالدولارات ومجموعة من الكرافتات الأنيقة.. يفتح الصبى الحقيبة ويستبدل له الكرافت بأخرى ويتناول المبلغ الذى يعطيه له مدير الإنتاج ويضعه فى الحقيبة ويهرول خلف «النخبوى» إلى بلاتوه آخر.
يصيح «النخبوى» وقد استقر فى مواجهة كاميرا فى قناة فضائية أخرى: فى الحقيقة.
تهتف مذيعة أخرى هيفاء فى انبهار:
- يا سلام.. قلت فى الحقيقة.. ماقلتش فى الواقع.. ماقلتش «لا شك» ماقلتش لا مندوحة.. قلت فى الحقيقة.. وفى الحقيقة أن «مصر» كلها تنتظر منك الكثير..
يردد «النخبوى» بنبرة تعاظم «و«بارانويا»:
- الحقيقة، وبصفتى «النخبوى» الأول العملاق.. الشامخ.. الطليعى.. والصوت الأوحد الذى يغرد خارج السرب.. المنفرد فى شهادته على العصر.. أقول إن قانون الخدمة المدنية الذى أصدرته الحكومة هو قانون فاشل.. متداعٍ.. تقليدى.. انهزامى.. متخلف.. لم يكن يهدف إلى إصلاح جهاز الدولة بل تدميره.. لولا أن مجلس النواب قد أحبطه.. واختار أن يُبقى «الحال على ما هو عليه».. ولن تنجح خطة الحكومة فى تمرير قانون جديد.. معدل.. فسوف يصوت الأعضاء أيضاً ضده.
إن السلطة التى يعطيها القانون لرئيس العمل ليدوس المرؤوس بقدميه بفصله أو نقله وتشريده أو توقيع عقوبة مالية قاسية عليه هى سلطة دكتاتورية.. وكل سلطة مفسدة.. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.. إن موقف المستبد هو موقف ذلك الذى يقطع شجرة كى يقطف ثمرة.. فهل من أجل عمالة زائدة تقدر ببضعه ملايين نقتلهم كما نقتل الكلاب الضالة أو أطفال الشوارع الذين اقترح أحدهم أن نزهق أرواحهم للتخلص من أعبائهم؟!.
وهل نسينا شعار «العدالة الاجتماعية» الذى رفعته ثورتا 25 يناير و30 يونيو؟!.. وهل نزيد فقراء مصر والمعدمين ملايين نضيفهم إلى ملايين يسكنون العشوائيات ويشربون من المجارى ويأكلون من صناديق القمامة وتصرعهم قطارات صدئة أو عبّارات متآكلة؟!.. ثم أين الممارسة الشفافة؟!
أنا أوافق السيد الزميل المفكر «جان مونيه» الذى قال إن التغيير أو التطوير لكى ينجح لا بد أولاً من تغيير روح الناس.. وهذا لا يمكن حدوثه إلا بتطهير الجهاز الإدارى فى الوظائف الحكومية من قمته إلى قاعدته.. فالسمكة تفسد من رأسها وليس من ذيلها.. ومن عرف الحق عزّ عليه أن يراه مهضوماً.