طالما شكل الأكراد قضية محورية فى تفاعلات عدة دول عربية وإقليمية طوال العقود السبعة الماضية، وهى تفاعلات عرفت بالتقلبات الشديدة ما بين الانفراج النسبى أو القتال والحرب، والمتابعون لما يجرى فى إقليم كردستان العراق بعد الغزو الأمريكى البريطانى مارس 2003، وحتى الآن يدركون تماماً أن هذا الإقليم بات يشكل نواة لدولة تنقصها فقط الاعتراف الدولى وعضوية الأمم المتحدة، فالإقليم يمارس شئونه بعيداً تماماً عن أى تدخل من المركز فى بغداد، بما فى ذلك منح تأشيرات الزيارة وبيع النفط فى الحقول، التى تدخل تحت سيطرته جغرافياً أو تلك التى تم السيطرة عليها لاحقاً فى كركوك قبل حوالى عامين نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية فى العراق والمواجهة مع داعش، وكركوك لا تدخل فى إطار الإقليم من الناحية الإدارية وفقاً للتقسيم العراقى، وما زالت محل نزاع قانونى بين قيادة الإقليم وبين المركز فى بغداد.
ومعروف أن تركيا تعتبر أن قيام دويلة كردية فى أى بلد مجاور سوف يدفع بدوره طموحات أكرادها، وقوامهم يقترب من 20 مليوناً يتركزون فى جنوب البلاد، للحصول على نوع من الاستقلال الذاتى فى مرحلة أولى على الأقل، بحيث يتطور إلى قيام كيان مستقل سيكون خصماً من الدولة التركية نفسها، ومعروف أيضاً أن سياسة أنقرة تتصف بالقسوة سياسياً وعسكرياً وقانونياً تجاه كل من يُلمح إلى فكرة حكم ذاتى للأكراد فى إطار الدولة التركية الراهنة كنوع من الحل التاريخى للأزمة الكردية لديها، أو إلى أى فكرة أخرى قد تنطوى على قدر من الاستقلال والتسيير الذاتى لشئون الأكراد، ولو بعد عقود طويلة من الآن. والمفارقة هنا أن تركيا تتعامل مع إقليم كردستان العراق باعتباره كياناً شبه مستقل عن المركز فى بغداد، وتتعامل مع قيادته بشكل أقرب إلى التحالف بين دولتين، وقد أدت سياسة التقارب هذه إلى فتح مجالات واسعة للشركات التركية للمقاولات وبناء الطرق والجسور والاتصالات والنقل للعمل فى مدن الإقليم، وحققت، وما زالت، أرباحاً هائلة، الأمر الذى حقق نوعاً من الازدهار الاقتصادى، مقارنة بباقى مناطق العراق الأخرى التى تعانى نقصاً وتدهوراً فى كل شىء تقريباً.
ولكنها سياسة أدت أيضاً إلى إغراق الإقليم فى الديون للشركات التركية والدولية معاً، وإلى رهن نفط الإقليم لسنوات طويلة مقبلة. وهناك تعاون أمنى وعسكرى متزايد بين الطرفين، ويشكل مجال النفط أحد أوجه التعاون غير المسبوق، إذ هناك أنبوب تم إقامته لنقل النفط من كردستان العراق، بعيداً عن معرفة بغداد إلى ميناء جيهان التركى، ومنه إلى الأسواق العالمية، ورغم احتجاج بغداد بأن هذا النفط يعد مسروقاً وبيعه غير شرعى، فلا يوجد أدنى اهتمام من قبل أنقرة وحكومتها، بل الأكثر من ذلك تتسرب الأنباء عن مفاوضات سرية لبناء أنبوب ثانٍ لنقل وبيع نفط كردستان العراق عبر الأراضى التركية. ولا شك أن كل ذلك يدعم من استقلالية الاقتصاد فى إقليم كردستان، ولكنه يؤدى عملياً إلى أن يكون تحت سيطرة تركيا، وهى السيطرة التى تتصور أنقرة أنها كفيلة بمنع تحول الإقليم إلى دولة كردية مستقلة تضرب فى العمق أمن تركيا ذاتها ولو بعد حين. ورغم أهمية الوضع الاقتصادى فى التأثير على أوضاع شعب آخر، فإن السيطرة على المشاعر القومية لشعب آخر تُعد خارج الحسابات، فالهوية الكردية رغم معاناة السنوات الطوال، وسعيها إلى الكيان الموحد والمستقل تزداد رسوخاً، وهو ما لا يدركه أردوغان وأركان دولته الذين يستفيدون من النفط المُهرب على حساب أمن بلدهم ووحدة أراضيه.
ما يجرى فى العراق له نظير فى سوريا، وإن بشكل آخر، وهنا نجد التناقض التركى فى أعلى درجاته، وقبل يومين اشتكى أردوغان من مواقف الولايات المتحدة التى تناصر أكراد سوريا وتؤيد مسعاهم فى حماية البلدات والقرى التى يتمركزون فيها فى شمال وشمال شرق سوريا (وأشهرها عفرين وكوبانى والجزيرة)، وخيّر واشنطن بأن تقف معه أو تقف مع الأكراد السوريين، خاصة حزب الاتحاد الديمقراطى بقيادة صالح مسلم، والذين يراهم إرهابيين وامتداداً لحزب العمال الكردستانى. ويزداد الوضع سوءاً لأنقرة مع دخول الروس على الخط، فهم الآن أكبر الداعمين لحزب الاتحاد الديمقراطى، وفرعه العسكرى المعروف باسم قوات حماية الشعب، والذين لعبوا دوراً مهماً فى تحرير «كوبانى» أو «عين العرب» من سيطرة داعش قبل عام تقريباً. وبينما تصر موسكو على مشاركة الأكراد، وخاصة صالح مسلم فى أى مفاوضات للتسوية السياسية فى سوريا، ترفض أنقرة، فى حين لا تمانع واشنطن باعتبار أن أكراد سوريا باتوا قوة عسكرية لا يمكن تجاهلها على الأرض، بل تعول واشنطن على دورهم فى مواجهة داعش فى مرحلة لاحقة.
ويبدو من مسار الأحداث بعد التدخل العسكرى الروسى، أن قوات حماية الشعب الكردية تتعاون وتنسق مع روسيا بشأن تحركاتها العسكرية. ويبدو هناك نوع من التعاون العسكرى مع قوات بشار الأسد فى المناطق الشمالية والشمالية الغربية حول حلب وإدلب التى كانت تحت سيطرة مسلحى جبهة النصرة التابعة للقاعدة وتنظيم أحرار الشام، ومسلحين من الجيش السورى الحر، الذى تدرب من قبل على يد الأردنيين والأمريكيين، وهى المناطق التى تشهد حالياً تقدماً للقوات الحكومية وحلفائها، وبحيث أصبح على المسلحين من النصرة أو أحرار الشام، إما الانطلاق ناحية الشرق حيث توجد داعش، أو ناحية الغرب حيث الحدود مع تركيا. وهى تطورات عسكرية تدعم دور أكراد سوريا وتحقق لهم اعترافاً أكبر بمكانتهم ودورهم فى أى جهود لتحديد مستقبل سوريا.
هذه التطورات باتت تخصم عملياً من خطط أنقرة الخاصة بإنشاء منطقة آمنة أو بالأحرى عازلة فى داخل الأراضى السورية بهدف منع الأكراد من توسيع دورهم واستقرار إدارتهم الذاتية، على غرار ما جرى فى إقليم كردستان العراق، والمؤكد أنه إذا ما غامرت تركيا بإرسال قوات برية إلى هذه المناطق الحدودية، فسوف تُقابل بمقاومة من قوات حماية الشعب الكردية جنباً إلى جنب القوات الحكومية، وستفتح على نفسها باباً آخر من الجحيم. وربما تفكر تركيا لاحقاً فى التعامل مع هذه المنطقة الكردية بنفس منطق التعامل مع إقليم كردستان العراقى، أى إقامة تحالف نظير عدم مساعدة حزب العمال الكردستانى التركى، وهو أمر يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلاً، نظراً للتقارب الفكرى والأيديولوجى بين حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى، وحزب العمال الكردستانى.