الدجل جزء من حياة البشر عموماً، لكن يبقى أن له نصيباً وحظاً أكبر فى حياة المصريين، وتطفر أمارات هذه الحالة الثقافية والعقلية فى مصر فى أوقات الأزمات أكثر من غيرها. خرجت علينا مجموعة من النكرات خلال الأسابيع الأخيرة بـ«افتكاسات دجلية» من النوع العالى. شخص ادعى النبوة، وبدأ يبشر برسالته الجديدة، ويزعم أنه مسئول عن صياغة الكثير من الأحداث فى مصر. من بعده خرج شخص يدعى الألوهية، ويؤكد أنه سيهدم الكعبة المشرفة نهاية 2016، ورد عليه أحد معارضيه: «ابقى فكر كده تيجى جنب الكعبة والملك سلمان هيجيبك من قفاك»!. وإعمالاً لمبدأ المساواة ما بين الرجل والمرأة خرجت علينا إحداهن بما هو أكثر افتكاساً، فادعت أنها «دابة الأرض» وقالت: «أنا على حق وبتكلم حق وبأمر الله، أنا الدابة، وفيه آية تؤكد أن المُلك لى، والله أوحى إلىّ». وفى ظل حالة الانحطاط التى تسيطر على بعض القنوات والبرامج التليفزيونية، هرول مهرجو الاستديوهات إلى استضافة هذه الشخصيات، جرياً وراء رفع نسب المشاهدة.
حقيقة الأمر أن الناس تهتم بالفعل بمشاهدة هذا العبث، وليس عليهم لوم فى ذلك، فأغلبهم ينتمى إلى ثقافة تأسست على الدجل، فنحن أبناء مجتمع خرج واحد من أفراده على الناس ذات يوم قائلاً: «ما علمت لكم من إله غيرى»، فعبدوه دون تفكير، لأنه يملك السيف والصولجان. كان الأمر جديداً على التجربة البشرية حينذاك، فمن الوارد أن يخرج إنسان ويدعى النبوة، ويصدقه الناس، أما أن يخرج من يدعى الألوهية ويعبده من حوله. فهذا أمر جديد كل الجدة، فريد كل التفرد، وكان مهده هنا فى مصر، حيث يرفع الناس شعاراً يلخصه المثل الشعبى الذى يقول: «إذا دخلت على بلد يعبد أهلها العجل.. حش وارميله». مهرجو استديوهات الفضائيات يحشون ويلقون.
كثيرون يتشاركون فى الاحتفاء بثقافة الدجل، حيث لا تبدو أية فروق بينهم وبين من يحشون فى البرامج التليفزيونية. فوق منصة رابعة كثرت أحاديث الإخوان حول «جبريل» عليه السلام الذى أتى بخيله ورجله لمساندة المعتصمين، وتعددت الرؤى والأحلام التى تبشر بالحمامات الثمانية، وعن الأحلام حدث ولا حرج، فهى ليست شأنا إخوانياً وفقط، بل شأن خصومهم أيضاً!. كم من لسان خرج يصف الرئيس بأنه «المخلص»، وكم من لسان رفع الرئيس والوزراء إلى مراتب الأنبياء، أحدهم وصف وزير الدفاع ووزير الداخلية فى يوم بأنهما مثل «موسى وهارون». كبار القوم فى مصر لا يتأبون -بغض النظر عن درجة تعليمهم- عن اللجوء إلى الدجالين والعرافين، ليستطلعوا لهم خرائط المستقبل، فالتخلف الثقافى والفكرى أمر واقع لدى الجميع. كثيرون يرقصون على أنغام الدجل ويتعيشون به، لذلك لست أجد داعياً لسلق مدعى النبوة أو الألوهية أو «الدبوبية» بألسنة حداد، إنهم ببساطة يرقصون، كما يرقص غيرهم، بل وربما يجدون من يصدقهم، مثلما وجد أصحاب نظرية «نزول سيدنا جبريل» إلى الأرض، وأصحاب نظرية «موسى وهارون» من يصدقهم أيضاً. الدجل يسيطر على عقل الإنسان عندما تهزمه الحياة، أو يشتد طمعه فيها. هنالك تجده يثرثر بأكاذيب الدجل، ومن فرط تكراره لها يصدقها، ويبنى حياته على أساسها، لتتحول الحياة بمجملها إلى «أكذوبة كبرى».. «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ».