بعد احتكاك ميدانى تجاوز الأربع سنوات كقنصل لمصر ببغداد، كان تقديرى أن عزة الدورى، نائب «صدام»، يمثل أكبر التهديدات المحتملة للدولة، حال تصعيده لمقعد السلطة؛ حضارة العراق رهن بوحدته، وضمانها رهن باحترام التنوع، لكن نشأة الرجل جمعت داخله بين التشدد السلفى، والزهد الصوفى، أنشأ بمنزله مسجداً و«تكية»، ارتبط بالمشايخ، يرى فى الشيعة -وهم نصف شعبه- رافضة، ويهدد الأكراد -خُمس شعبه- بتكرار مذبحة حلبجة، ويرمى طوائف من مواطنيه -كالإيزيديين والشبك والأشوريين- بالكُفر.. تمضى السنون، وتتعاقب الأحداث، ويتكلم، وكان أولى به أن يخرس.. حديثه المنشور بجريدتنا الغراء «الوطن» يومى 3 و4 الحالى سبق صحفى، لكنه يفرض الرد، بحقائق موضوعية ودامغة.
بعد هزيمة العراق فى حرب تحرير الكويت 1991، أقنع «الدورى» صدام بالتراجع عن علمانية البعث، دعماً لشعبيته، نظم «الحملة الإيمانية»؛ أضاف «الله أكبر» إلى علم العراق، نظم دورات فى الفقه لكوادر البعث، طبق عقاب «قطع يد السارق»، والإعدام بقطع الرأس، خاصة ضد العاهرات، ووفر الحماية للضباط السلفيين والمتشددين داخل الجيش!!، الحملة قادها «فدائيو صدام»، تخللتها ممارسات دموية، أصبحت نموذجاً، احتذى به داعش.
قبيل الهجوم الأمريكى 2003، استقدم «الدورى» آلاف المقاتلين الأجانب، بحجة التصدى للغزاة، سلطات الاحتلال أدرجته بقائمة المطلوبين، فاختفى ليقود المقاومة، اعتقلت ضباط البعث السلفيين، فاختلطوا بالمتطرفين، وتحولوا للفكر الجهادى التكفيرى، سرحت 400 ألف من الجيش، وأوقفت معاشاتهم، دون تجريدهم من أسلحتهم، فأصبحوا هدفاً للتنظيمات المسلحة.. بعد إعدام صدام، واختياره أميناً عاماً للبعث 2006، نجح «الدورى» فى إقناع الصوفية بحمل السلاح!!، وشكل جيش «رجال الطريقة النقشبندية»، باعتباره الجناح العسكرى للحزب، انتشر فى كركوك وديالى وتكريت والموصل وسامراء.. «الدورى» جمع 14 تنظيماً مسلحاً فى «جبهة الجهاد والتحرير»، ضمت داعش والقاعدة، وجماعات انبثقت عن جيش النقشبندية والإخوان، وأخرى بعثية وليبرالية، انتُخِب قائداً لها 2009، وسافر متخفياً لسوريا وتركيا واليمن وشمال لبنان والسعودية، لترتيب أوضاع التنظيم ودعم تحالفاته ومصادر تمويله.
الدورى وداعش والقاعدة استغلوا احتجاجات 2013 بالمناطق السنية «الرمادى، صلاح الدين، الموصل، كركوك»، للفرز والتجنيد، وتوسيع قاعدة الأنصار، وبعد فض اعتصام الرمادى نهاية ديسمبر، شكل مجالس محلية عسكرية، تولى إدارتها الضباط البعثيون السابقون، ومجالس للمحافظات بقيادة أبناء العشائر، إضافة لـ«المجلس العام لثوار العراق» كواجهة سياسية، كانت مهمتهم الرئيسية السعى لإجهاض محاولة الحكومة إحياء تجربة الصحوات، حتى لا تُجهِض خطة الاستيلاء على نينوى وصلاح الدين التى كان يتم إعدادها.
قبل اجتياح الموصل 10 يونيو 2014 توصل «الدورى» لاتفاق مع داعش، تضمن: توليه السلطة فى حالة سقوط بغداد، تكليف الجناح الأمنى للنقشبندية، الذى يضم ضباط مخابرات سابقين، بحماية قيادات داعش، قصر المراكز القيادية بالتنظيم على العراقيين، تعزيز قيادته العسكرية بالمزيد من ضباط الجيش السابقين، وقد رشح الدورى بعضهم، توظيف الشبكة التى شكلتها المخابرات فى التسعينات لتفادى العقوبات الدولية، فى دعم أنشطة داعش «التجنيد، التسلل والتهريب، تسويق النفط، التسليح..»، الاتفاق مكَّن داعش من الجمع بين تكتيكات الجيوش النظامية وحرب العصابات، وشكل محاولة لاستعادة دولة البعث، واحتواء التنظيم.
المسلحون الذين أسقطوا الموصل كانوا فى حدود 3000 مقاتل، ثلثهم يرتدون ملابس داعش السوداء ويرفعون أعلامها، ومثلهم من رجال الدورى بالزى العسكرى الزيتونى الخاص بالأجهزة الأمنية زمن صدام، والباقى ميليشيات مدنية، صور «الدورى» انتشرت بكثافة أزعجت داعش، فكلفت عناصرها بتمزيقها، مما أدى لاحتكاكات عديدة، تفاقمت بإدراك التنظيم أن خطة الدورى تعتمد على التنسيق معها وتوظيف قوتها للسيطرة على محافظتى نينوى وصلاح الدين، ثم تسليم إدارتهما للعشائر، بحجة أن داعش ليس واجهة مقبولة، لا عربياً ولا دولياً، وحتى يجهض الخطة اعتقل التنظيم قرابة 40 ضابطاً من قيادات الدورى، واختطفت أربعة بعد اكتشاف تخطيطهم لانقلاب ضده، أعلن الخلافة 29 يونيو، انفرد بإدارة الموصل، وظهر البغدادى للعامة 4 يوليو، فى استباق واضح لتثبيت سلطته، وطلب داعش من كافة التنظيمات مبايعتة، فانهار التحالف، بعد أسبوعين من اجتياح الموصل، لكن الدورى لم يترك الساحة، وبث تسجيلاً صوتياً -لأول مرة- 11 يوليو، حاول فيه احتواء الخلافات، وحيّى الفصائل العسكرية البعثية والسنية التى شاركت فى اجتياح الموصل، وفى طليعتهم من وصفهم بـ«أبطال وفرسان القاعدة وداعش»، واعتبر «يومى تحرير نينوى وصلاح الدين من أعظم أيام تاريخ العراق والعرب بعد الفتح الإسلامى»، دافع صراحة عن داعش والقاعدة متهماً قوى الإمبريالية العالمية بالسعى لوصم الثوار والمسلحين بالإرهاب زوراً وبهتاناً ودجلاً!!.. داعش لم تستجيب للتهدئة، فاستغل البعث فرضها للجزية على المسيحيين، ليصدر بياناً اعتبرها «مشروعاً لتخريب الثورة»، وحاول «الدورى» تشكيل كتائب «سيف الحق» لمواجهتها بالقوة، لكنه اكتشف أن تحالفه معها قد قضى على نفوذه، وأعجزه عن ذلك.
«داعش» تعرض لهزائم استراتيجية خلال 2015، تحررت تكريت عاصمة صلاح الدين، وبعدها الرمادى عاصمة الأنبار، وبدأت الاستعدادات للمعركة الفاصلة بالموصل، لذلك طرح «الدورى» نفسه كبديل لـ«البغدادى»، والبعث بديلاً لداعش.. تصريحات ضرغام الدباغ الأمين العام لمجلس الثوار، خلال مشاركته بمؤتمر عرب الأهواز بكوبنهاجن أكد صراحة «نطرح أنفسنا كبديل عن كل ما هو موجود على الساحة»، ووصف موقف الدورى من داعش «ليس على وفاق.. ليس فى حرب!!»، وهو موقف انتهازى، اقترن بحملة لرفض الدعاوى المطالبة بتدخل روسيا ضد داعش، باعتباره تعزيزاً لدور الدولة، بينما يسعى الدورى لاستعادة سيطرة البعث.
حديث الدورى لـ«الوطن» سقطة رجل فى أرذل العمر، لا من واقع تاريخه الأسود فحسب، إنما بنص كلماته.. فقد استبعد المواجهة مع داعش، باعتبارها معركة جانبية.. دافع عنه لأنه «لم يقتل ولم يهدم ولم يخرب بمقدار 1% مما قتلته وخربته وحرقته إيران وعملاؤها بالعراق».. أشاد بمقاتليه باعتبارهم «ضمن الفصائل التى حررتنا..»، ادعاؤه أن التحاق البعثيين بداعش تم بصورة فردية، ينفيه تاريخ تعاونه معه، وأعدادهم التى تقدر بـ12 ألفاً، يحتلون معظم مناصبها القيادية.. أشاد بالدور الوطنى للإخوان!!، مدعياً اقتصار تعاونهم مع حكومات الاحتلال الأمريكى على «الحزب الإسلامى»، مبدياً حسرته لغيابهم عن الساحة فى مصر «كان أملنا ألا يصل التقاطع مع الإخوان لما وصل إليه»!!، وعندما ارتدى القناع العروبى، مؤكداً حرصه على دول الخليج، نسى أنه رغم علاقات الصداقة التى ربطته بالملك عبدالله، ومسئوليته عن ملف المشاكل الحدودية مع الكويت، خان الجميع، واجتاحها بجيشه.. متى يدرك الرجل أن الصمت فى الشيخوخة أبلغ من أى ثرثرة؟!.